المذكور هنا وجند الشئ غيره، ولأن الجهل بالمعنى الثاني أمر عدمي والاعدام غير مخلوقة سواء كانت سلوبا محضة أو ملكات بل المراد به مبدء الشرور والمقابح كما أن المراد بالعقل مبدء الخيرات والمحاسن ويمكن أن يراد بهذين المبدأين صفة النفس المسماة بالقوة الجاهلة وصفتها المسماة بالقوة العاقلة وأن يراد بهما ذات النفس أي الجوهر المجرد المدبر للبدن المحتاج في فعله وتصرفه إليه وذات الجوهر المستغني عن البدن في وجوده وفعله (1) الذي إذا حصل لغيره وأشرق نوره فيه كان ذلك الغير عاقلا به إذا لم يحصل له وقام بذاته كان عقلا ومعقولا وتسمية النفس بالجهل من باب المجاز لأنها محل للجهل المركب والبسيط، بل يمكن أن يقال: إنها من باب الحقيقة لأن النفس وإن كانت مبدءا للجهالات ومنشأ للشرور كلها ومصدرا للصور الوهمية الكاذبة الباطلة ومقتضيات القوى الشهوية والغضبية والبهيمية وسائر القوى البدنية لكن إذا تمكنت فيها هذه الأباطيل ورسخت فيها صارت جهلا محضا وشيطانا صرفا بعيدا عن الحق جل شأنه وكلما ازداد التمكن والرسوخ ازدادت جهالتها وشيطنتها واحتجابها عن الحق حتى بلغت النهاية في الجهالة والغاية في الضلالة وصارت قدوة المترددين وإمام المتكبرين (2).
(من البحر الأجاج ظلمانيا) ماء اجاج أي ملح مر و «ظلمانيا» حال عن الجهل أو عن البحر الاجاج والمراد به الغضب (3) الإلهي لأنه مر كريه الطعم والرايحة على مذاق الشاربين ومشام العارفين أو المراد به مجموع الصفات النفسانية التي بعضها حسن وبعضها قبيح لتخمير النفس بها وهذا المجموع من حيث هو بمنزله ماء كدر مر ممتزج بغبار الملكات الدنية ومرارة الصفات الشنيعة وملوحة قبايح الآثار وخشونة فضايح الأطوار وعبر عنه بالبحر للدلالة على تراكم تلك الصفات