شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج ١ - الصفحة ١٦٨
فلكونه ضريرا يرى أمر الدنيا عظيما وأمر الآخرة حقيرا، وربما يخطر من تدليس إبليس بباله القاصر وذهنه الفاتر أن النقد خير من النسيئة فيختار الدنيا على الآخرة ولا يعلم لعميان قلبه (1) ونقصان بصيرته أن النقد خير من النسيئة إذا كان مماثلا لها في الكمية والكيفية وليس الأمر ههنا كذلك إذ هذا النقد لا قدر له أصلا ولا وزن له قطعا عند هذه النسيئة على أن أصحاب الايمان وأرباب العرفان لكثرة عبادتهم وشدة رياضتهم يجدون نقدا من الفيوضات الإلهية والإشراقات الربانية مالا يرضون بعوض واحد منها أخذ الدنيا وما فيها.
(يا هشام إن العقلاء زهدوا في الدنيا) وأعرضوا عن حطامها وزهراتها الفانية وطهروا ساحة قلوبهم عن طول الأمل ولوث العوائق وقطعوا عن رقاب نفوسهم زمام التمني وحبل العلائق (ورغبوا في الآخرة) وطلبوا ثوابها باستعمال العبادات واستكمال الطاعات واجتهدوا في الوصول إلى أشرف المنازل وأرفع المقامات فتاهت أرواحهم في مطالعة الملك والملكوت، وكشفت لهم حجب العز والجبروت، وخاضوا في بحر اليقين، وتنزهوا في رياض المتقين، وركبوا سفينة التوكل وأقلعوا بشراع التوسل، وساروا بريح المحبة في جداول قرب الغرة وحطوا بشاطىء الإخلاص (2) حتى نزلوا في ساحة الجلال ومنزل الاختصاص.
(لأنهم علموا أن الدنيا طالبة) لمن فيها لتوصل إليه ما عندها من رزقه المقدر وقوته المقرر (مطلوبة) يطلبها أهلها حرصا في جميع ما لا يحتاج إليه وذخر ما يكون نفعه لغيره وضره عليه (والآخرة طالبة) لمن في الدنيا لتؤتيه ما عندها من وقته المقرر وأجله المقدر، إذا لأجل مثل الرزق مكتوب مقدر (ومطلوبة) يطلبها أهلها للوصول إلى أشرف درجاتها وأرفع طبقاتها بالأعمال الصالحة

1 - عميان القلب ونقصان البصيرة من غلبة الوهم على العقل ومثل لذلك المنطقيون بأن العقل يركب مقدمات صحيحة يعترف بها الوهم فإذا أراد الاستنتاج نكص الوهم على عقبيه كالشيطان، مثلا يقول العقل الميت جماد وهو حق والجماد لا يخاف عنه وهو أيضا حق يعترف به الوهم والنتيجة الميت لا يخاف عنه يعترف به العقل دون الوهم فإن كان الإنسان تابعا لوهمه خاف، وان كان تابعا لعقله لم يخف.
والوهم هو السلطان المطلق والحاكم في الحيوان ويعرف في زماننا في لسان العوام بالغريزة والفطرة وقد يطلق عليه العواطف في الإنسان والوهم مع تغليطه ومعارضته العقل له شأن كبير ومصالح عظيمة خله الله تعالى لتلك المصالح فلولا الخوف والوهم لم يرض الناس بدفن أعزتهم وأحبتهم في التراب ولما تحمل أحد مشقة تربية الأولاد ولما دافع الناس عن اعراضهم وأموالهم وأقاربهم ولما خاطروا بأنفسهم في سبيل جمع المال وتحصيل الجاه فإن ذلك كله ناش من تصور معنى جزئي كالمحبة والعداوة ينبعث منه الغضب والشهوة لكن الإنسان مأمور بتسخير وهمه لعقله وأن يستعمله حيث يجوزه العقل وساير الحيوان مجبولة بمتابعة أوهامهم ولا عقل يردعهم عما يأمر به وهمهم (ش).
2 - وحطوا أي انزلوا رحالهم والدنيا لا تطلب الا بالوهم فإنها مال وجاه ورياسة وغلبة وتلذذ وأمثال ذلك من القوة الواهمة والعقل معارض لها (ش).
(١٦٨)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 163 164 165 166 167 168 169 170 171 172 173 ... » »»
الفهرست