فلكونه ضريرا يرى أمر الدنيا عظيما وأمر الآخرة حقيرا، وربما يخطر من تدليس إبليس بباله القاصر وذهنه الفاتر أن النقد خير من النسيئة فيختار الدنيا على الآخرة ولا يعلم لعميان قلبه (1) ونقصان بصيرته أن النقد خير من النسيئة إذا كان مماثلا لها في الكمية والكيفية وليس الأمر ههنا كذلك إذ هذا النقد لا قدر له أصلا ولا وزن له قطعا عند هذه النسيئة على أن أصحاب الايمان وأرباب العرفان لكثرة عبادتهم وشدة رياضتهم يجدون نقدا من الفيوضات الإلهية والإشراقات الربانية مالا يرضون بعوض واحد منها أخذ الدنيا وما فيها.
(يا هشام إن العقلاء زهدوا في الدنيا) وأعرضوا عن حطامها وزهراتها الفانية وطهروا ساحة قلوبهم عن طول الأمل ولوث العوائق وقطعوا عن رقاب نفوسهم زمام التمني وحبل العلائق (ورغبوا في الآخرة) وطلبوا ثوابها باستعمال العبادات واستكمال الطاعات واجتهدوا في الوصول إلى أشرف المنازل وأرفع المقامات فتاهت أرواحهم في مطالعة الملك والملكوت، وكشفت لهم حجب العز والجبروت، وخاضوا في بحر اليقين، وتنزهوا في رياض المتقين، وركبوا سفينة التوكل وأقلعوا بشراع التوسل، وساروا بريح المحبة في جداول قرب الغرة وحطوا بشاطىء الإخلاص (2) حتى نزلوا في ساحة الجلال ومنزل الاختصاص.
(لأنهم علموا أن الدنيا طالبة) لمن فيها لتوصل إليه ما عندها من رزقه المقدر وقوته المقرر (مطلوبة) يطلبها أهلها حرصا في جميع ما لا يحتاج إليه وذخر ما يكون نفعه لغيره وضره عليه (والآخرة طالبة) لمن في الدنيا لتؤتيه ما عندها من وقته المقرر وأجله المقدر، إذا لأجل مثل الرزق مكتوب مقدر (ومطلوبة) يطلبها أهلها للوصول إلى أشرف درجاتها وأرفع طبقاتها بالأعمال الصالحة