فضول الدنيا إذا كان من باب الفضل والكمال دون الفرض وترك الذنوب والاجتناب عنها من باب الفرض الذي يطلب به النجاة عن عقوبات الدنيا والآخرة فهم إذا ارتكبوا ما ليس بفرض ارتكبوا ما هو فرض قطعا وإنما قال: وترك الدنيا، ولم يقل: وترك فضول الدنيا للتنبيه على أن غير الفضول وهو القدر الضروري ليس من الدنيا في شئ لأن المقصود منه حفظ النفس والاستعانة به على العمل للآخرة في طلبه عبادة كما روي «الكاد على عياله كالمجاهد في سبيل الله» (1) والعبادة لا تعد من الدنيا (2).
(يا هشام إن العاقل نظر) بعين البصر والبصيرة (إلى الدنيا وإلى أهلها) الطالبين لزهراتها، الغارقين في شهواتها، المائلين إلى لذاتها (فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة) لما رأى من أهلها في تحصيلها من خوض اللجج وسفك المهج وقطع البحار وطي القفار في التجارات وصرف الأعمار وقصر الأفكار في الزراعات إلى غير ذلك من أنحاء الأسباب وأنواع الاكتساب، وفي حفظها من دوام السهر ليلا ونهارا وجعلها نصب العين سرا وجهرا إلى أن يموتوا أو يقتلوا ذلا وصغارا (ونظر) بعين البصيرة (إلى الآخرة) ومقاماتها الرفيعة، ومنازلها الشريفة، ومثوباتها الجزيلة، ومنافعها الجميلة وإنما لم يقل هنا «وأهلها» كما قال قرينته للتنبيه على قلتهم بل على عدم وجودهم (فعلم أنها لا تنال إلا بالمشقة) الحاصلة من صرف الفكر في المعارف الإلهية والاحكام الربانية في جميع الأوقات وحبس النفس والجوارح على الطاعات في آناء الليل وأطراف النهار وأشرف الساعات، وعلم مع ذلك أن الدنيا والآخرة كضرتي إنسان في أن محبة إحديهما إسخاط للأخرى، أو مثل كفتي ميزان في أن رفع إحداهما وضع للأخرى (فطلب بالمشقة أبقاهما) لما جبلت النفوس عليه من عدم تحمل المشاق إلا لأجل المنافع والمنافع الاخروية أجل قدرا أو أعظم شأنا وأدوم زمانا من المنافع الدنيوية بل لا نسبة بينهما إذ المتناهي لا يقاس بغير المتناهي كما قال عز شأنه حكاية عن قوم حين شاهدوا أهوال القيامة وعلموا طول زمانها وسئلوا عن كمية زمان تلبثهم في الدنيا (قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم فاسئل العادين) وقال أمير المؤمنين (عليه السلام) «لو كانت الدنيا من ذهب والآخرة من خزف لاختار العاقل الخزف الباقي على الذهب الفاني» كيف والأمر على العكس هذا حال العاقل، وأما الجاهل