تصلح القلب وتصقله لأنه ينكشف جلال الله وعظمته في ذاته وصفاته وأفعاله، والأعمال لما كانت وسيلة إليها، معينة لها، حافظة إياها تطلب لأجلها، ففضيلة كل عمل إنما هي بقدر تأثيره في صفاء القلب وإزالة الحجاب عنه فكل عمل كان تأثيره أكمل من غيره فهو أفضل، ومراتب الإنسان في ذلك مختلفة، فرب إنسان يكفيه قليل العمل في تأثير قلبه للطافة طبعه ورقة حجابه ورب إنسان بخلافه لغلظة طبعه وكثافة حجابه فربما يؤثر كثير العمل فيه تأثيرا قليلا، وبعد تقرير هذا يتبين معنى قوله (عليه السلام) «قليل العمل من العالم مقبول مضاعف» لأن معنى كونه مقبولا أنه مؤثر في صفاء قلبه وإزالة الحجاب عنه ومعنى كونه مضاعفا أن تأثيره في قلبه أضعاف تأثيره في قلب غيره، وذلك لأن ارتفاع أكثر الحجب عنه بممارسة العلوم فإن كل مسألة يحققها العالم تجلي قلبه وتصقله، فإذا ترادفت المسائل والعلوم يبلغ قلبه في الصفاء إلى حد لا يحتاج إلى كثير عمل لكن ما دام الإنسان في دار الغرور لا يستغني بالكلية عن عمل وكسب لا لأجل إنشاء أصل التصقيل الذي قد فعل بل للمحافظة عليه وحراسته من الآفات وهي مما يكفيه القليل من الأعمال ومعنى قوله (عليه السلام) وكثير العمل من أهل الهوى والجهل مردود أنه لا يؤثر الأعمال الكثيرة في تلطيف قلوبهم وإزالة الحجاب والغشاوة عنها لأن قلوبهم قاسية ونفوسهم جرمانية وسدهم شديد.
(يا هشام إن العاقل رضي بالدون من الدنيا مع الحكمة) للنفس حياتان وموتان بإزاء كل حياة موت، الحياة الأولى للنفس تعلقها بهذا البدن وتصرفها بهذا النحو من التعلق والتصرف المعلومين، وموتها انتقالها من هذا البدن وانقطاع تعلقها وتصرفها فيه. الحياة الثانية ابتهاجها بكمالاتها وصفاتها وأعمالها وأخلاقها المرضية الموجبة لقرب الحق جل شأنه، وموتها فقدها لتلك الكمالات والأعمال والأخلاق وتحيرها في ظلمات أضدادها، والعاقل يعلم قطعا أن الحياة الأولى حياة مجازية لسرعة انتقال النفس عن البدن وقلة مدتها، وأن الاحتياج إلى زهرات الدنيا التي هي سبب لهذه الحياة إنما هو بقدر بقائها في تلك المدة القليلة وإن الزائد على ذلك وبال عليه وتضييع للغمر فيما لا يحتاج إليه، ويعلم أن الحياة الثانية حياة حقيقية أبدية لعدم انصرامها أبد الآبدين وإن سبب هذه الحياة الأبدية هي الحكمة وقد عرفت تفسيرها آنفا فيرضى مع الحكمة الموجبة للحياة الأبدية بالدون من الدنيا والقليل منها الذي هو سبب للحياة المجازية (ولم يرض بالدون من الحكمة) وقليل من العلم والمعرفة (مع الدنيا الكثيرة) الزائدة التي لا يحتاج إليها في بقاء الحياة الدنيوية، فأولئك اشتروا الأشرف بالأخس والأعلى بالأدنى حيث استبدلوا الحكمة التي قال الله تعالى في وصفها (ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا) بما لا يحتاجون إليه من فضل الدنيا واختاروها عليه (فلذلك ربحت تجارتهم) ضمير الجمع باعتبار إرادة الجماعة من الجنس وإسناد الربح وهو الفضل على رأس المال