منها أجله (فيأتيه الموت فتفسد عليه دنياه وآخرته) أما فساد دنياه فلانقطاعها عنه وعدم وفائها وزوال تصرفه فيها وعود ما جمعه إلى غيره حتى كأنه كان عبدا لذلك الغير، وأما فساد آخرته فلان صلاح الآخرة إنما هو باكتساب الأعمال المرضية وصرف الفكر في الأحكام النافعة الشرعية، وهما إنما يكونان قبل الموت وفي دار الدنيا، وهو قد كان في الدنيا عاملا للدينا، ومكتسبا لزخارفها، ومتفكرا في منافعها، وعبدا لغيره، فقد ظهر من هذا الحديث أن طالب الآخرة له الدنيا والآخرة وطالب الدنيا خاسر فيهما ونظيره قول أمير المؤمنين (عليه السلام): «الناس في الدنيا عاملان عامل في الدنيا للدنيا قد شغلته دنياه عن آخرته، يخشى على من يخلفه الفقر ويأمنه على نفسه، فيفنى عمره في منفعة غيره، وعامل عمل في الدنيا لما بيدها فجاءه الذي له من الدنيا بغير عمل، فأحرز الحظين معا، وملك الدارين جميعا فأصبح وجيها عند الله تعالى لا يسئل الله حاجة فيمنعه» (1) وفيه ترغيب في تفويض الرزق إلى الله تعالى والتوكل عليه وتنبيه على أنه لا يبلغ هذه المرتبة إلا العقلاء لأنهم الذين إذا تأملوا بعقولهم الصحيحة ونظروا إلى لطف الله تعالى في باب الأرزاق وتفكروا في رزق الطيور والأجنة في بطون الأمهات ورزق المجانين وساير الحيوانات بلا تكلف ولا حيلة علموا أن وصول الرزق منوط بالمشيئة الإلهية وما قدر للشخص فهو يأتيه قطعا ويطلبه جزما، فيكون طلبه عبثا لا فائدة فيه وتضييعا للعمر فيما لا يعنيه، وصرفوا عنان الهمة نحو الآخرة ساعين عابدين خاشعين متضرعين لعلمهم بأن الآخرة ودرجاتها لا تناول إلا بالأعمال الصالحة، فنسأل الله تعالى الاقتفاء بآثارهم والتمسك بأطوارهم إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.
(يا هشام من أراد الغنى بلا مال) (2) الغنى الدنيوي على وجهين أحدهما ما يدفع ضرورة الحاجة بحسب الاقتصاد والقناعة، وثانيهما المفهوم المتعارف بين أرباب الدنيا من جمع المال وادخاره والاتساع به فوق الحاجة والغنى على الوجه الأول ممدوح عقلا ونقلا، وعلى الوجه الثاني مذموم.
والغنى الديني - وهو ما يدفع النزول في عذاب الجحيم ويوجب الوصول إلى جنات النعيم - مع تفاوت مراتبه كله ممدوح والأنسب هنا هو الوجه الأول بقرينة التفريع الآتي والتنكير في قوله «بلا مال» حينئذ للتكثير لأن الاقتصاد والقناعة يحتاج إلى قليل من المال وحمله على المعنى الأخير