ذلك كله لعلمه بأنه يوجب منقصة في دينه وضعفا في يقينه وآثر الوحدة على الكثرة ورجح الفرقة على الالفة للتحرز عن مشاركتهم في أفعالهم الشنيعة وأطوارهم الدنية علم أنه قوي في العقل والتدبير في أمور الآخرة لأن ذلك من آثار العقول الكاملة (فمن عقل عن الله) أي فمن عرف الله وعرف ذاته وصفاته وما يجوز له وما يمتنع عليه وأحكامه وشرايعه وأحوال الآخرة وشدة فاقة الناس وكثرة احتياجهم إليه يوم القيامة الذي يشتغل فيه الأبرار بأنفسهم فضلا عن الأشرار (اعتزل عن أهل الدنيا والراغبين فيها) وهم الذين يؤثرون الدنيا وزهراتها ويبذلون الجهد في اقتنائها وادخار ثمراتها كما هو المشاهد من أبناء الزمان الذين يجيبون دواعي النفس في منازل الطغيان ويقتفون آثارها ويسمعون وساوس إبليس في مراحل العصيان ويطأون أدبارها كما هو المعلوم من أرباب الفسوق والكفران، وفيه دلالة على شيئين أحدهما أن الاعتزال إنما للعاقل العالم بمعالم دينه وأما الجاهل فاللايق بحاله أن يخالط الناس ويشتغل بطلب العلم فإن أمكنه في بلده وإلا فليطلبه في بلد آخر كما قيل: «اطلبوا العلم ولو بالصين» (1). الثاني: أن الاعتزال مطلوب عن أهل الدنيا وأهل العصيان لاعن أهل الآخرة، فإنهم أولياء الله وأنصاره في دينه، والتوصل بهم يوجب الاستنارة بنورهم والاستضاءة بضوئهم (ورغب فيما عند الله) من الخيرات والأنوار الإلهية والاشراقات العقلية والابتهاجات الذوقية والترقيات الروحية، إلى غير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ولا بأس أن نشير إلى العزلة وأقسامها وشئ من فوائدها ومنافعها إذ ذكر جميع فوائدها متعذر لأنها ذوقية حاصلة لأرباب العزلة بعد الممارسة في مدة طويلة لمجاهدات شديدة فنقول:
العزلة من الناس أقسام:
الأول: وهو أدناها أن يكون بينهم ولا يكون معهم بل يكون وحيدا غريبا مستوحشا منهم ولا يجالسهم وإن جالسهم أبغضهم كما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: «إذا ابتليت بأهل النصب ومجالستهم فكن كأنك على الرضف (2) حتى تقوم فإن الله يمقتهم ويلعنهم فإذا رأيتهم يخوضون في ذكر إمام من الأئمة فقم فإن سخط الله ينزل هناك عليهم» (3).
الثاني: وهو أوسطها أن يسكن في بيته ولا يخرج إليهم أصلا ولا يركن إلى مجالستهم ومقاولتهم كما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال «يا أيها الناس طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس