التقدير وغرائب الصنع وبديع التدبير. قال القاضي ولعل الاقتصار على هذه الثلاثة في هذه الآية لأن مناط الاستدلال هو التغير، والتغير إما أن يكون في ذات الشئ كتغير الليل والنهار، أو في جزئه كتغير العناصر بتبدل صورها، أو في الخارج عنه كتغير الأفلاك بتبدل أوضاعها، وقال بعض أهل الإشارة: وخلق السماوات (1) إشارة إلى خلق الأرواح وأطوارها العالية وخلق الأرض إشارة إلى خلق النفوس البشرية وقرارها وتسفلها في مراكز الأبدان، واختلاف الليل والنهار إشارة إلى اختلاف ظلمة النفوس البشرية والأنوار الروحانية فإن هذه الأمور أدلة واضحة على وجود الصانع لاولى الألباب، وهم الذين عبروا بقدم الذكر والفكر عن قشر الوجود الظلماني الفاني إلى لب الوجود الروحاني الباقي فشاهدوا بعيون البصائر ونواظر الضمائر أن لهم إلها قيوما قادرا حيا عليما سميعا بصيرا متكلما حكيما له الأسماء الحسنى والصفات العليا وقال: (أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى) لما ضرب الله سبحانه مثلا للذين استجابوا لربهم استجابة حسنة وهم المؤمنون العالمون العاملون والذين لم يستجيبوا له وهم الكافرون والجاهلون تارة بالماء وزبده وهو وضره ودرنه، وتارة بالفلزات كالذهب والفضة والحديد والنحاس وزبدها وهو خبثها ورديها.
وأوضح الفرق بين الفريقين بأن الأول بمنزلة الماء والفلزات الخالصة التي تبقى في الأرض وينتفع بها انتفاعا عظيما والثاني بمنزلة زبدها ودرنها يرمى به الماء والفلزات المذابة الخالصة أنكر على من زعم التساوي بينهما بعد ضرب المثل والايضاح وبين أنه لا مساواة بين من يعلم أن ما أنزل إليك من ربك وهو القرآن وما اشتمل عليه من التوحيد وصفات الواجب والأحكام وأحوال الحشر والنشر والثواب والعقاب والأمثال وغيرها حق وصدق ويذعن به إذعانا جازما ثابتا، وبين من هو أعمى القلب فاقد البصيرة لا يهتدي إلى الحق منكرا له أو جاهلا به بل بينهما مباينة تامة وبعد مفرط كبعد ما بين الماء والزبد والفلزات الخالصة وأخبائها (إنما يتذكر) أي ما يعلم ذلك أولا يتفكر فيه إلا (اولو الألباب) وأما الكفرة والجهلة الفاقدون للبصاير الذهنية والأنوار العقلية والسالكون سبيل الغي والضلالة فهم بمنزلة البهائم، بل هم أضل فطمع التذكر والتفكر منهم في المطالب العالية كطمعه من البهائم.
وقال (أمن هو قانت) أي قائم بوظايف الطاعات من القنوت وهي الطاعة والدعاء والقيام في قوله (عليه السلام): «أفضل الصلاة طول القنوت» (2) والمشهور الدعاء وقولهم دعاء القنوت إضافة بيان كذا في المغرب، وقال الجوهري: «القنوت الطاعة هذا هو الأصل; ومنه قوله تعالى (والقانتين والقانتات)