انطلاق زيد وجعلته عن عمرو والمعنى بل عمرو منطلق، إذا عرفت هذا فنقول: «أم تحسب» عطف على قوله تعالى «أفأنت» في الآية المتصلة به في القرآن العزيز وهي قوله تعالى: (أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا) والاستفهام الأول للتقرير والتعجيب، والثاني لإنكار الفاعل، والثالث لإنكار الفعل و «أم» ههنا ليست متصلة لانتفاء الشرط المذكور، بل هي منفصلة إضراب عن الأول إلى ما هو أشد مذمة منه حتى حق بالاضراب عنه إليه، والمعنى بل أتحسب (أن أكثرهم يسمعون) آيات القرآن والحجج المنزلة للتحدي بها (أو يعقلون) معانيها الدقيقة ولطائفها الخفية وحقايقها الجلية وفيه قطع لاهتمامه بشأنهم وطمعه بايمانهم وخص الأكثر بالذكر لأن منهم من عرف الحق وآمن به، ومنهم من عرفه وأنكره عنادا أو استكبارا أو خوفا على فوات الرياسة (إن هم إلا كالأنعام) وفي عدم انتفاعهم بما يقرع آذانهم من الآيات وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل والمعجزات. وفيه تنبيه على أن تميز الإنسان في الحقيقة عن غيره من الحيوانات ليس بحسب الصورة المحسوسة بل بحسب الحقيقة الإنسانية التي بها يدرك المعقولات المفصلة ويميز بين الحق والباطل فإذا فسدت تلك الحقيقة وبطل فعلها ارتفع التميز وحصل التشابه (بل أضل سبيلا) من الأنعام لأنها تنقاد لصاحبها وتميز المحسن إليها من المسئ، وتطلب ما ينفعها وتجتنب عما يضرها وهؤلاء لا ينقادون لربهم، ولا يميزون إحسانه من إساءة الشيطان ولا يطلبون ثوابه الذي هو أعظم المنافع، ولا يجتنبون عن عذابه الذي هو أشد المضار ولأنها لم تعتقد حقا ولم تكتسب خيرا ولم تعتقد باطلا ولم تكتسب شرا بخلاف هؤلاء فإنهم اعتقدوا باطلا واكتسبوا شرا، ولأن جهالتها لا تضر بأحد وجهالة هؤلاء تهيج الفتن وتصد الناس عن الحق، ولأنها تتخلص بالموت ونفوسهم الشريرة باقية أبدا متألمة محزونة منكوسة إلى أسفل السافلين، ولأنها غير متمكنة من طلب الكمال فلا تقصير منها ولا ذم وهؤلاء مقصرون مستحقون للبعد عن حضرة القدس.
وتوضيح ذلك: أن للأنعام صورة ظاهرية محسوسة وحقيقة باطنية معدة لأفعال مخصوصة وآثار معلومة وتلك الصورة دائما مطابقة لهذه الحقيقة لا تتعداها إلى غيرها، مثلا الأسد أسد بحسب الصورة وبحسب الحقيقة الباطنية السبعية، والذئب ذئب بحسب الصورة وبحسب الحقيقة الباطنية الضارية، والحمار حمار بحسب الصورة وبحسب الحقيقة الباطنية الناهقية، وتلك الحقيقة لا تقدر أن تبطل آثارها وخواصها بخلاف الإنسان فإنه إنسان بحسب الصورة والحقيقة الروحانية القلبية وهي مستعدة لاكتساب الضدين اكتساب الخير والشر وقابلة للتحلي بالفضائل والتدنس بالرذايل، فإذا اعتقد شيئا أو فعل فعلا واستمر فيه صار ذلك ملكة يصدر منها الأفعال بسهولة وتلك الملكة صورة باطنية فإن كانت ملكة الفضايل طابقت الصورة الظاهرة تلك الصورة الباطنة ويترقي بذلك الإنسان