الذي هو منزل الإدبار والمسخ عند أصحاب القلوب النورانية إلى العلم الحقيقي والعالم العلوي فيستريح عن اللواحق الناسوتية ويتحلي بالفضايل اللاهوتية وهذا المعبر عنه بالإقبال كما في بعض الأحاديث (ودليل التفكر الصمت) أي السكوت عما لا يعني; لأن التفكر أعني حركة الروح النورانية القابلة للمطالب العالية من المبادي إلى تلك المطالب إذا أخذت في الاستدلال أو إدراكهما معا إذا كانت لها رتبة المكاشفة يتوقف على سد طرق الحواس ويحتاج إلى المنع من دخول الأغيار في القلب أما على الأول فلأن مشرب القلب على ذلك التقدير ضيق جدا فلا يرد فيه من لطايف المعاني إلا واحد بعد واحد، فإذن دخول الغير من طرق الحواس يمنع ورودها فيه قطعا، وأما على الثاني فلأن القلب لغاية صفائه ونهاية ضيائه يتأثر سريعا من أنفاس تلك الأغيار وأكدارها فلا ينطبع فيه صور هذه المطالب ومن جملة الحواس اللسان وهو أعظهما فإنه يتناول كل موجود ومعدوم ومعلوم وموهوم ويتعرض له بنفي وإثبات وهذه الحالة لا توجد في غيره فإن اليد لا تصل إلى غير الأجسام والأذن لا تصل إلى غير الأصوات وكذا القياس في البواقي فلذلك خص الصمت بالذكر تنبيها على اعتبار حال سائر الحواس أيضا فإذن الصمت مما يتوقف عليه التفكر وهو دليله في انتقاله من القوة إلى الفعل.
(ولكل شئ مطية ومطية العقل التواضع) المطية الدابة التي تمطو في سيرها أي تجد وتسرع والجمع المطايا والمطي والامطاء، وفي النهاية هي الناقة التي يركب مطاها.
أي ظهرها يعني لكل شئ في انتقاله من العدم إلى الوجود أو من القوة إلى الفعل أو من حالة أنقص وأدنى إلى حالة أرفع وأعلى سبب هو كالمطية له وسبب انتقال العقل من القوة الذاتية الفطرية إلى العقل بالفعل ومن عالم الغواشي الجسمانية إلى عالم المجردات (1) هو التواضع لله سبحانه والتذلل له عند الوقوف على معارفه والعكوف على نواهيه وأوامره فمن ورد في مكان المعارف والأحكام ولم يتواضع له تعالى فقد فقد مطيته للحركة إليه والنزول بين يديه فيبقي تائها متحيرا في ذلك المكان أو يرجع مدبرا بتطاول الأعادي وإغواء الشيطان.
وقيل تحقيق هذا الكلام: أن لكل شئ طبيعة متوجهة إلى غايتها وله مادة حاملة لقوتها واستعدادها نحو كمال هي بمنزلة الراحلة (2) له ومادة العقل هي النفس وكل مادة تستعد لكل صورة