قالوا: أيها الملك الحكيم المحمود قد فهمنا مقالتك وفي أنفسنا أجابتك وليس لنا أن نحتج عليك فقد رأينا مكان الحجة، فسكوتنا عن حجتنا فساد لملكنا، وهلاك لدنيانا وشماتة لعدونا، وقد نزل بنا أمر عظيم بالذي تبدل من رأيك وأجمع عليه أمرك، قال: قولوا آمنين واذكروا ما بدا لكم غير مرعو بين فإني كنت إلى اليوم مغلوبا بالحمية والانفة وأنا اليوم غالب لهما، وكنت إلى اليوم مقهورا لهما وأنا اليوم قاهر لهما، وكنت إلى اليوم ملكا عليكم فقد صرت عليكم مملوكا، وأنا اليوم عتيق وأنتم من مملكتي طلقاء، قالوا: أيها الملك ما الذي كنت مملوكا إذ كنت علينا ملكا، قال: كنت مملوكا لهواي مقهورا بالجهل مستعبدا لشهواتي فقد قطعت تلك الطاعة عني ونبذتها خلف ظهري، قالوا: فقل ما أجمعت عليه أيها الملك؟ قال: القنوع والتخلي لآخرتي وترك هذا الغرور ونبذ هذا الثقل عن ظهري والاستعداد للموت، والتأهب للبلاء، فإن رسوله عندي قد ذكر أنه قد أمر بملازمتي والإقامة معي حتى يأتيني الموت، فقالوا: أيها الملك ومن هذا الرسول الذي قد أتاك ولم نره، وهو مقدمة الموت الذي لا نعرفه، قال: أما الرسول فهذا البياض الذي يلوح بين السواد، وقد صاح في جميعه بالزوال، فأجابوا وأذعنوا، وأما مقدمة الموت فالبلى الذي هذا البياض طرقه.
قالوا: أيها الملك أفتدع مملكتك؟ وتهمل رعيتك وكيف لا تخاف الاثم في تعطيل أمتك ألست تعلم أن أعظم الاجر في استصلاح الناس وأن رأس الصلاح الطاعة للأمة والجماعة، فكيف لا تخاف من الاثم، وفي هلاك العامة من الاثم فوق الذي ترجو من الاجر في صلاح الخاصة، ألست تعلم أن أفضل العبادة العمل وأن أشد العمل السياسة، فإنك أيها الملك (ما في يديك) عدل على رعيتك، مستصلح لها بتدبيرك، فإن لك من الاجر بقدر ما استصلحت، ألست أيها الملك إذا خليت ما في يديك من صلاح أمتك فقد أردت فسادهم فقد حملت من الاثم فيهم أعظم مما أنت مصيب من الاجر في خاصة يديك.
ألست أيها الملك قد علمت أن العلماء قالوا: من أتلف نفسا فقد استوجب