إعانة الطالبين - البكري الدمياطي - ج ٢ - الصفحة ٢٨٤
بمكان، حتى يتأدب بتلك الآداب، وكل من قصر فيها، ولم يتحقق بها لم تكمل تلاوته، ولكنه لا يخلو في تلاوته من ثواب، وله فضل على قدره - فمن أهم الآداب وآكدها: أن يكون التالي في تلاوته مخلصا لله تعالى، ومريدا بها وجهه الكريم، والتقرب إليه، والفوز بثوابه. وأن لا يكون مرائيا، ولا متصنعا، ولا متزينا للمخلوقين، ولا طالبا بتلاوته شيئا من الحظوظ العاجلة، والاغراض الفانية الزائلة. وأن يكون ممتلئ السر والقلب بعظمة المتكلم عز وعلا، خاضعا لجلاله، خاشع القلب والجوارح، حتى كأنه من تعظيمه وخشوعه واقفا بين يدي الله تعالى يتلو عليه كتابه الذي أمره فيه ونهاه.
وحق لمن عرف القرآن وعرف المتكلم به أن يكون كذلك، وعلى أتم من ذلك. كيف وقد قال الله تعالى: * (لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) * (1)؟ فإذا كان هكذا يكون حال الجبل - مع جموده وصلابته - لو أنزل عليه القرآن، فكيف يكون حال الانسان الضعيف المخلوق من ماء وطين؟ لولا غفلة القلوب وقسوتها، وقلة معرفتها بعظمة الله وعزته وجلاله. اه‍.
(قوله: في غير نحو الحش) متعلق بإكثار. أي سن إكثار في غير نحو الحش. أما نحو الحش فلا يسن إكثارها فيه، ومفهومه أن أصل التلاوة تسن فيه، وليس بمراد، لما نصوا عليه من كراهة الذكر والقراءة في محل قضاء الحاجة من بول أو غائط، بل اختار بعضهم التحريم، لكن حال قضاء الحاجة.
والحش - بضم الحاء، وفتحها - محل قضاء الحاجة، ويسمى بيت الخلاء. واختلف أهل اللغة في إطلاق الحش على ما ذكر، فقال بعضهم إنه حقيقة، وقال بعضهم إنه مجاز - كما في المصباح - وعبارته: الحش: البستان. والفتح أكثر من الضم. وقال أبو حاتم: يقال لبستان النخل: حش. فقولهم بيت الحش: مجاز، لان العرب كانوا يقضون حوائجهم في البساتين، فلما اتخذوا الكنف وجعلوها خلفا عنها أطلقوا عليها ذلك الاسم. وقال في مختصر العين: المحشة:
الدبر. والمحش: المخرج - أي مخرج الغائط - فيكون حقيقة. اه‍. بحذف. وانظر: ما نحو الحش؟ ولعله المكان المتيقن نجاسته - كالمزبلة والمجزرة.
(قوله: ولو نحو طريق) غاية لغير نحو الحش: أي ولو كان ذلك الغير نحو طريق، وعبارة فتح الجواد: ولو نحو طريق أو حمام توفر فيه التدبر. اه‍. (قوله: وأفضل الأوقات إلخ) قال الامام النووي - رحمه الله تعالى - في الأذكار (اعلم) أن أفضل القراءة ما كان في الصلاة. ومذهب الإمام الشافعي وآخرين - رحمهم الله تعالى - أن تطويل القيام في الصلاة بالقراءة أفضل من تطويل السجود وغيره. وأما القراءة في غير الصلاة، فأفضلها قراءة الليل، والنصف الأخير منه أفضل من الأول، والقراءة بين المغرب والعشاء محبوبة. وأما قراءة النهار: فأفضلها ما بعد صلاة الصبح، ولا كراهة في القراءة في وقت من الأوقات، ولا في أوقات النهي عن الصلاة. وأما ما حكاه ابن أبي داود - رحمه الله تعالى - عن معاذ بن رفاعة - رحمه الله تعالى - عن مشايخه أنهم كرهوا القراءة بعد العصر، وقالوا إنها دراسة يهود: فغير مقبول، ولا أصل له.
ويختار من الأيام: الجمعة، والاثنين، والخميس، ويوم عرفة. ومن الأعشار: العشر الأول من ذي الحجة، والعشر الأخير من شهر رمضان. ومن الشهور: رمضان. اه‍. (قوله: وقراءة الليل أولى) أي من قراءة النهار، لان الخشوع والتدبر في قراءة الليل لا يحصلان في قراءة النهار. (قوله: وينبغي أن يكون شأن القارئ التدبر) أي لما يقرؤه والتفهم له، حاضر القلب معه. قال تعالى: * (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولو الألباب) * (2)، وقال تعالى - في معرض الانكار والتوبيخ - * (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟) * (3) وقال علي كرم الله وجهه: لا خير في قراءة لا تدبر فيها. وصدق رضي الله عنه، لان القرآن إنما أنزل ليتدبر. وبالتدبر يفهم المراد منه، ويتوصل إلى العلم به، والعمل بما فيه، وهذا هو المقصود بإنزاله وبعثة الرسول (ص) به.

(٢٨٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 279 280 281 282 283 284 285 286 287 288 289 ... » »»
الفهرست