باب الحج (1) هو آخر أركان الاسلام، وأخره عن الصوم نظرا للقول بأن الصوم أفضل منه، واقتداء بخبر: بني الاسلام إلخ.
واعلم أن فضائله لا تحصى. منها خبر: من جاء حاجا يريد وجه الله تعالى، فقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويشفع فيمن دعا له. ومنها خبر: من قضى نسكه، وسلم الناس من لسانه ويده، غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.
وروى ابن حبان عن ابن عمر أن النبي (ص) قال: إن الحاج حين يخرج من بيته لم يخط خطوة إلا كتب الله له بها حسنة، وحط عنه بها خطيئة، فإذا وقفوا بعرفات: باهى الله بهم ملائكته، يقول: انظروا إلى عبادي، أتوني شعثا غبرا، أشهدكم أني غفرت لهم ذنوبهم وإن كانت عدد قطر السماء ورمل عالج. وإذا رمى الجمار: لم يدر أحد ما له حتى يتوفاه الله تعالى يوم القيامة، وإذا حلق شعره فله بكل شعرة سقطت من رأسه نور يوم القيامة. فإذا قضى آخر طوافه بالبيت خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه. وقال ابن العماد في كشف الاسرار: وحكمة تركب الحج من الحاء والجيم: الإشارة إلى أن الحاء من الحلم، والجيم من الجرم - فكأن العبد يقول: يا رب جئتك بجرمي - أي ذنبي - لتغفره بحلمك اه.
وأعمال الحج كلها تعبدية، وقد ذكر لهما بعض حكم، فمن ذلك ما ذكره في (الروض الفائق في المواعظ والرقائق) أن ابن عباس رضي الله عنهما سئل عن الحكمة في أفعال الحج، وما في المناسك الشريفة من المعاني اللطيفة، فقال: ليس من أفعال الحج ولوازمه شئ إلا وفيه حكمة بالغة، ونعمة سابغة، ونبأ وشأن وسر يقصر عن وصفه كل لسان. فأما الحكمة في التجرد عند الاحرام: فإن من عادة الناس إذا قصدوا أبواب المخلوقين، لبسوا أفخر ثيابهم من اللباس، فكأن الحق سبحانه وتعالى يقول: القصد إلى بابي خلاف القصد إلى أبوابهم، لاضاعف لهم أجرهم وثوابهم.
وفيه أيضا أن يتذكر العبد بالتجرد عند الاحرام: التجرد عن الدنيا عند نزول الحمام - كما كان أولا - لما خرج من بطن أمه مجردا عن الثياب، وفيه شبه أيضا بحضور الموقف يوم الحساب - كما قال تعالى: * (إن الله لا يظلم مثقال ذرة) * (2).
* (ولقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة) * (3). اه. وأما الاغتسال عند الاحرام: فلحكمة ظاهرة الاحكام، وهو أن الله تعالى يريد أن يعرض الحجاج على الملائكة ليباهي بهم الأنام، فلا يعرضون على الملائكة الكرام إلا وهم مطهرون من الأدناس والآثام. وفيه أيضا حكمة أخرى: وهي أن الحجاج يضعون أقدامهم على مواضع أقدام الأنبياء الأبرار، فيكونون قبل ذلك قد اغتسلوا لينالوا بركتهم في تلك الآثار، كما قال تعالى وهو أصدق القائلين: * (إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين) *. وأما الحكمة في التلبية: فإن الانسان إذا ناداه إنسان جليل القدر أجابه بالتلبية وحسن الكلام، فكيف بمن ناداه مولاه الملك العلام، ودعاه إلى جنابة ليكفر عنه الذنوب والآثام؟ وإن العبد إذا قال: لبيك، يقول الله تعالى: ها أنا دان إليك، ومتجل عليك. فسل ما تريد، فأنا أقرب إليك من حبل الوريد. وأما الحكمة في الوقوف بعرفة وأخذ الجمار من المزدلفة: فإن فيه أسرار لذوي العلم والمعرفة، فمعناه: كأن العبد يقول - سيدي: حملت جمرات