العموم حسب ما بيناه فلما قال الشارع: إذا وقع في البئر انسان ومات فيها يجب نزح سبعين دلوا علمنا، أن هذا عموم ولما أجمعنا أنه إذا باشرها كافر وجب نزح جميع مائها علمنا أنه خصوص. لأن الانسان على ضربين: مسلم محق وكافر مبطل هذا انسان وهذا انسان بغير خلاف، فانقسم الانسان إلى قسمين والكافر لا ينقسم لا يقال: هذا كافر وهذا كافر وليس بكافر فإن أريد بالكافر الانسان على القسمين معا كان مناقضة في الأدلة، والأدلة لا تتناقض فلم يبق إلا أنه أراد بالإنسان ما عدا الكافر الذي هو أحد قسمي الانسان، وما هذا كاستدلالنا كلنا على المعتزلة في تعلقهم بعموم آيات الوعيد مثل قوله تعالى: وإن الفجار لفي جحيم، ففجار أهل الصلاة داخلون في عموم الآية فيجب أن يدخلوا النار ولا يخرجوا منها.
فجوابنا لهم: إن الفاجر على ضربين: فاجر كافر وفاجر مسلم وقد علمنا بالأدلة القاهرة عن أدلة العقول التي لا يدخلها الاحتمال أن فاجر أهل الصلاة غير مخلد في النار وهو مستحق للثواب بإيمانه. قال الله تعالى في آية أخرى: جاهد الكفار والمنافقين وأغلظ عليهم ومأويهم جهنم وبئس المصير، فعلمنا أن الفجار في الآية من عدا فجار أهل الصلاة من فجار الكفار لأنه ليس كل فاجر كافر وكل كافر فاجر، فأعطينا كل آية حقها وكنا عاملين بهما جميعا فالعموم قد يخص بالأدلة لأنه لا صيغة له عندنا. ومثال آخر:
إذا خاطبنا الحكيم بجملتين متماثلتين في العموم، فإن كانت الجملة الأولى أعم والثانية أخص دل ذلك على أنه أراد بالجملة الأولى ما عدا ما ذكر في الجملة الثانية، وإن كانت الجملة الثانية أعم دل ذلك على أنه أراد بالثانية ما عدا ما ذكره في الجملة الأولى، ونظيره أن يقول:
اقتلوا المشركين، ويقول بعده: لا تقتلوا اليهود والنصارى، فإن ذلك يفيد أنه أراد بلفظ " المشركين " ما عدا اليهود والنصارى وإلا كانت مناقضة أو بداء، وذلك لا يجوز، ونظير الثاني أن يقول أولا: لا تقتلوا اليهود والنصارى، ثم يقول بعده: اقتلوا المشركين، فإن ذلك يدل على أنه أراد بلفظ المشركين الثانية ما عدا ما ذكر في الجملة الأولى ولولا ذلك لأدى إلى ما قدمناه وأبطلناه وليس لأحد أن يقول: هلا حملتم الجملة الثانية على أنها ناسخة للجملة الأولى؟ قلنا:
من شأن النسخ أن تتأخر عن حال الخطاب على ما هو معلوم في حد النسخ، وإنما ذلك من أدلة التخصص التي يجب مقارنتها للخطاب، فعلى هذا ينبغي أن يحمل كل ما يرد من هذا الباب