شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ٩٨٩
(واعلم، أن سر الحياة سرى في الماء، فهو أصل العناصر والأركان، ولذلك جعل الله من الماء كل شئ حي. وما ثم شئ إلا وهو حي، فإنه ما من شئ إلا وهو يسبح بحمد الله ولكن لا نفقه تسبيحه إلا بكشف إلهي. ولا يسبح إلا حي.) سر الحياة هو الهوية الإلهية السارية في جميع الأشياء بظهورها في (النفس الرحماني) أولا، وبسريانها بواسطته في كل شئ حصل منه ثانيا. وذلك لأن سر الشئ غيبه المستور فيه ومعناه الظاهر بصورته. ويجوز أن يراد به نفس الحياة وحقيقتها.
أي، حقيقة الحياة سارية في الماء وكلاهما متقاربان، لأن الهوية الإلهية هي المتجلية بالصفة الحياتية لا غيرها. وإنما جعل الماء أصلا لغيره من العناصر والأركان، لما نطق به الحديث النبوي من (ان الله خلق درة بيضاء، فنظر إليها بنظر الجلال والهيبة، فذابت حياء، فصار نصفها ماء ونصفها نارا، فحصل منهما دخان، فخلق السماوات من دخانها والأرض من زبدها). قيل: (الدرة) هي (العقل الأول). وفيه نظر. لأن ما ذاب وصار شيئا آخر لا يكون باقيا على تعينه الذاتي، والعقل الأول باق على تعينه، لا تقبل التغيير أصلا. بل المراد بها ما قبل صور العناصر من الهيولى العنصرية، والله أعلم (2)

(2) - واعلم، أن لفظ (الدرة البيضاء) يدل على أنها جوهرة شريفة روحانية. والمراد من قوله:
(ذابت) أي، تنزلت الماء الحياة وسالت أودية بقدرها من دون تجافيها عن مقامها الشامخ.
وكان الواجب على الشارح العلامة التأمل في الروايات الواردة في خلق الأول، أي، أول ما ظهر من غيب الوجود من تجلى الحق بالتعين بالاسم الأعظم الوجود المنبسط. وقد ورد من طرق الخاصة، أي الإمامية الجعفرية، والعامة: (أول ما خلق الله العقل). و (أول ما خلق الله نوري). و (أول ما خلق الله الماء). و (أول ما خلق الله القلم). وقد روى على، عليه السلام، عن النبي، صلى الله عليه وآله - مما سئل عن (العقل الأول) - أنه (ص) قال: (جعله الله ملكا له رؤوس بعد رؤوس الخلائق، واسم كل موجود كتب فيه). إلى أن ساق الكلام بقوله: (ألا، وأن مثل العقل كمثل السراج في اللبيب). وورد أيضا: (أول ما خلق الله القلم). و (أول ما خلق الله اللوح). وقال على، عليه السلام (في الكافي، حديث (العقل والجهل)): (العقل أول خلق من الروحانيين). وجه تسميته ب‍ (العقل) لأن أول ما صدر عن الحق موجود مجرد عن المادة والمقدار. ووجه تسميته ب‍ (القلم) أنه تبارك وتعالى قال للقلم بعد خلقه: (أكتب علمي في خلقي إلى الأبد). وقال تعالى للعقل، أو القلم، (على اختلاف الروايات): (أكتب القدر ما كان وما يكون وما هو كائن إلى الأبد). أو (إلى يوم القيامة). لقد كثرت الأسماء في نور نبينا والمسمى واحد. فباعتبار أنه كان درة صدف الخلائق ورد عن العامة والخاصة: (أول ما خلق الله درة بيضاء، ما خلق الله جوهرة مثل درة. فنظر إليها فذابت، فخلق منها...). الروايات المنقولة في باب الخلق (الأول) كلها منطبقة على النور الأحمدي والحقيقة المحمدية (ص)، لأنه نور الأنوار والقلم الأعلى الواسطة لظهور الحقائق من خزائن الغيب وتسطير الحقائق وترقيمها في المراتب والمظاهر على سبيل الترتيب. ووجه تسميته ب‍ (العقل الكلى) من جهة أنه خلاق للصور المفصلة، و هذه (الدرة) التي عبر عنها بجوهرة لم يخلق مثلها، لأن هذه الدرة بعد صدورها عن المرتبة الألوهية بالاسم الأعظم، وقع نظره تعالى إليها، وتجلى باسمه (الباسط) عليها، (فذابت) أي، ظهرت بالوجود التفصيلي من كينونتها القرآنية بصورة الفرقان والتفصيل من دون تجافيها عن مقامها الأصلي، لأنها (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت). ولذا قال الله تعالى للعقل الأول: (أقبل. فأقبل. ثم قال له: (أدبر. فأدبر). وهذا بعينه مطابق لقوله: (فنظر إلى الدرة، فذابت). أي، فصلت وتنزلت إلى الدنيا رحمة جامعة للرحمتين:
(الرحمانية) و (الرحيمية). والشارح العلامة من جهة عدم تدر به في الحكمة المتعالية عجز عن درك معنى قوله، عليه السلام: (أول ما خلق الله الدرة... فنظر إليها بنظر الجلال والهيبة، فذابت). وزعم أن الذوبان من خواص الأجسام قد وما تأمل في قوله، صلى الله عليه وآله:
(أول ما خلق الله الدرة). ولم يتأمل في قوله، عليه السلام: (إن الدرة جوهرة لم يخلق مثلها). وصرح، عليه السلام، في هذه الرواية أنها أفضل خلق في العالم. وإذا تصدى لمعنى قوله: (فذابت) تحير ولم يرتق فكره إلى كيفية تنزل الحقائق عن الغيب، وحمل أو فهم عن قوله، عليه السلام: (فذابت) الذوبان الجسماني قد اعلم، أن كل عارف صرف نقد عمره في المكتب الأشعري، أو ابتلي في المحيط الأشاعرة أوان دراسته، يصير متعبدا بهذه الطريقة الضالة زعما منه أنها طريقة السلف الصالح قد وإذا صار مستبصرا واختار طريقة أرباب المعرفة، يبقى في زوايا فكره وخيابا نظره تبعات من ترهات الشيخ الأشعري كإنكار الحسن والقبح العقليين، وغيرها من الهوسات التي ينبو عنها الطبع الإنساني. (ج)
(٩٨٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 984 985 986 987 988 989 991 992 993 994 995 ... » »»