شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ٨٩٢
(حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين). وقد تقدم بأنه كلمة محققة المعنى، أي حتى نعلم ما تعطيه ذاته المعينة لنا من أحوالها ويعلم هو ما تعطيه تلك الذات له من حيث تعينها الموجب للفرق بيننا وبينه، استفهم عن كلمته عما نسب إليها من الألوهية، هل هو حق؟ أي، فهل ذلك المنسوب إليك ثابت في نفس الأمر، أم لا. وهل وقع منك الأمر به، أم لا.
(فقال له: (أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله).) ولما كان الاستفهام بقوله: (أ أنت قلت) مفيدا معنى قوله: (حتى نعلم)، قال أولا: (قام لها الحق في مقام (حتى نعلم)) (فلا بد في الأدب من الجواب للمستفهم) أي، يجيبه من مقام التفرقة لا مقام الوحدة، فإن فيها نوعا من دعوى الألوهية. والأنبياء والأولياء الكمل لا يزالون مختارون مقام العبودية لما فيه من مراعا ت الأدب مع الله.
(لأنه لما تجلى له في هذا المقام وفي هذه الصورة، اقتضت الحكمة الجواب في التفرقة بعين الجمع.) أي، لأنه تعالى يتجلى في مقام التفرقة، فاستفهم على صورة الإنكار بقوله: (أ أنت قلت؟) بضمير الخطاب مرتين، فاقتضت الحكمة الإلهية أن يجب في مقام التفرقة التي هي في عين الجمع. فإن الكمل لا تحجبهم التفرقة عن مقام الجمع، ولا الجمع عن التفرقة.
(فقال وقدم التنزيه: (سبحانك). فحدد ب‍ (الكاف) التي يقتضى المواجهة والخطاب.) أي، نزه الحق أولا عن مقام هو فيه، وهو العبودية المنعوتة بالإمكان و نقائصه اللازمة له، وميز بين مقام الألوهية والعبودية - بكاف الخطاب - والمواجهة، كما خاطبه الحق بضمير الخطاب، وذلك التنزيه والتميز هو التحديد.
كما مر في (الفص النوحي). لذلك قال: (فحدد بالكاف). ( (ما يكون لي) من حيث أنا لنفسي دونك (أن أقول ما ليس له بحق). أي، ما يقتضيه هويتي ولا ذاتي.) قد مر مرارا أن لكل موجود جهتين: جهة الربوبية وجهة العبودية، والثاني متحقق بالأول. فقوله: (ما يكون لي) أي، لنفس من جهة العبودية والأنانية مجردة عن جهة الربوبية والهوية الإلهية أن أقول ما ليس لنفسي
(٨٩٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 887 888 889 890 891 892 893 894 895 896 897 ... » »»