شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ١١٧
الفصل الثامن في ان العالم هو صورة الحقيقة الانسانية (1) قد مر ان الاسم الله مشتمل على جميع الأسماء، وهو متجل فيها بحسب المراتب الإلهية ومظاهرها، وهو مقدم بالذات والمرتبة على باقي الأسماء، فمظهره أيضا مقدم على المظاهر كلها ومتجل فيها بحسب مراتبه. فلهذا الاسم الإلهي بالنسبة إلى غيره من الأسماء اعتباران: اعتبار ظهور ذاته في كل واحد من الأسماء، واعتبار اشتماله عليها كلها من حيث المرتبة الإلهية. فبالأول، يكون مظاهرها كلها مظهر هذا الاسم الأعظم لان الظاهر والمظهر في الوجود شئ واحد لا كثرة فيه ولا تعدد وفي العقل يمتاز كل منهما عن الآخر كما يقول أهل النظر بان الوجود عين الماهية في الخارج وغيره في العقل فيكون اشتماله عليها اشتمال الحقيقة الواحدة على افرادها المتنوعة. وبالثاني يكون مشتملا عليها من حيث المرتبة الإلهية اشتمال الكل المجموعي على الاجزاء التي هي عينه بالاعتبار الأول. وإذا علمت هذا علمت ان حقايق العالم في العلم والعين كلها مظاهر للحقيقة الانسانية التي هي مظهر للاسم الله، فأرواحها أيضا كلها جزئيات

(١) - قوله: (ان العالم صورة الحقيقة الانسانية). مرادهم بالحقيقة الانسانية العين الثابتة في العلم الإلهي للانسان الكامل. فان لكل عين من الأعيان الخارجية عين ثابتة في العلم الإلهي هي أصل ما هو في الخارج وما هو في الخارج ظل فهو الأصل، وبهذا يندفع ما يتوهم من ان الأعيان الثابتة في علم الله للأشياء هي ماهيات الأشياء وهي قبل وجوداتها لان عالم العلم قبل عالم العين والغيب قبل الشهادة، فكيف يقال الماهية منتزعة من حد الوجود؟
وجه الاندفاع: ان الماهيات الخارجية أظلال للأعيان الثابتة وهي أصول لها، وقولهم:
الأعيان هي الماهيات، باعتبار اتحاد الظل مع الأصل. والكمال قد يقال بالإضافة وقد يقال على سبيل الاطلاق والإضافي منه يتكثر افراده ويتعدد آحاده في كل نوع يستعمل فيه، فان زيدا أكمل من عمرو وعمرا أكمل من بكر. والكمال المطلق لا يتكثر بالافراد ولا يتعدد بالآحاد. لان الكمال بمعنى الشرف، والكلام ليس فيه، وبمعنى التمام والتمام لا يقبل التعدد والتكثر، وكلامنا فيه. فالانسان الكامل، أي الانسان الذي يتحقق فيه جميع الكمالات الانسانية واحد. وذلك بان يكون مظهرا لجميع الكمالات الإلهية موصوفا بجميع صفاته الجمالية والجلالية الا الوجوب الذاتي، فإنه يمتنع تحققه في غير ذاته تعالى، جل شأنه. وانما يكون الانسان الكامل كذلك لأنه خلق على صورته كما جاء في الخبر: (خلق الله آدم على صورته). وفي رواية (على صورة الرحمان). وفي التنزيل: (و علم آدم الأسماء كلها). هذا معنى خلقه على صورته. وبالجملة، التام لا يتعدد، وإليه أشار في قوله تعالى في نفى الشريك لذاته حيث قال: (لو كان فيهما آلهة الا الله لفسدتا). و ذلك لان الاله يجب ان يكون تاما لان النقصان يوجب التركيب والتركيب يوجب الافتقار والافتقار ينافي الوجوب الذاتي الأزلي وإلهيته. فلو فرضنا الهين لكانا متميزين فيشتمل كل واحد منهما أو أحدهما على مالا يشتمل عليه الآخر، والا لم يكن تاما، وإذا كان كل منهما مشتملا لما لا يشتمل عليه الآخر ليكون كل منهما فاقدا لما يوجد في الآخر فيكون مركبا ناقصا، فيكون ممكنا والممكن يكون له اله وذلك الممكن لا اله له، لأنا فرضناه الها، والممكن إذا لم يكن له اله يكون فاسدا باطلا معدوما لارتفاع المعلول بارتفاع العلة، وإذا كان كذلك فسدت الالهة فلو كانت آلهة للسماوات والأرض لفسدت السماوات والأرض لفسادها ضرورة بطلان المعلول عند بطلان العلة. وفي قوله تعالى: (وما كان معه من اله إذا لذهب كل اله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض، سبحان الله عما يصفون). أي، لو كان معه اله آخر وكانت الالهة متعددة لفسد كل اله مع خلقه، والبيان ما عرفته في الآية الأولى. وقوله: (ولعلا بعضهم على بعض) حجة أخرى لنفى التعدد. تقريره: انه لو كان معه تعالى اله آخر، لعلا بعضهم على بعض، وليس الكفاءة بين كل منهما وبين الآخر لان التام لا يتعدد ولا يتكثر فبعضهم، أي واحدهم، تام وغيره ناقص فالتي فرضناها آلهة ليست بآلهة. فالذات الواحدة لها تجل واحد هو تعينه بأحدية الجمع ولها باعتبار ذلك التجلي اسم واحد هو اسم الله، ولها باعتبار هذا الاسم مظهر واحد هو العين الثابتة الانسانية المعبرة في ألسنتهم بالحقيقة الانسانية، وهو القطب الأزلي الأبدي والنش ء الدائم السرمدي، وليس ذلك الا الضياء الأحدي والنور المحمدي، صلى الله عليه وآله، لأنه خاتم الأنبياء والمرسلين والخاتمة هي الفاتحة كما قال الله عز وجل: (لولاك لما خلقت الأفلاك). ولقوله، صلى الله عليه وآله: (أوتيت جوامع الكلم). وقوله: (انا سيد ولد آدم). ولقوله: (وما أرسلناك الا رحمة للعالمين). فهو الرحمة الواسعة الحقيقية التي وسعت كل شئ بإفاضة أعيانهم الثابتة في العلم ووجوداتهم الفائضة في العين وكمالاتهم اللائقة لهم في النشآت كلها فهو الواسطة في الايجاد والوجود ومجرى إفاضة الخير والجود ومن أسمائه المفيض.
تعليق قوله: (قد مر ان الاسم الله...) أراد أن يبين ان العالم صورة الاسم الله ليثبت به مرامه، وهو ان العالم صورة حقيقة الانسانية. وصورة القياس هكذا: العالم صورة الاسم الله، وما هو صورة الاسم الله صورة الحقيقة الانسانية، فالعالم صورة الحقيقة الانسانية. اما الصغرى، فإنك قد عرفت فيما سبق ان الذات الإلهية في مرتبة الأحدية الذاتية لا اسم لها ولا رسم وما يعبر به عنها يعبر عنها للأفهام. و في مرتبة الأحدية الجمع لها اسم جامع لجميع الأسماء وتلك الجامعية تعتبر على وجهين:
أحدهما، جامعية مبدأ الأشياء للأشياء والأصل للفروع كالبذر للأثمار والنواة للأشجار بأوراقها وأغصانها، وبهذا الاعتبار يكون الاسم اسم الذات، وثانيهما، جامعية الجملة لاجزائه والكل لآحاده كالعسكر للأفواج والحدود للأجناس والفصول، وبهذا الاعتبار يكون اسم الصفة وذلك الاسم الجامع المأخوذ بالاعتبارين هو الله: فباعتبار الأول يكون جميع الأسماء فيه مندمجة كما ان جميع الصفات يكون في مسماه وهو الذات مندمجة، فمنه ينشأ جميع الأسماء كما ان من مسماه وهو الوجود البحت الواجبي ينشأ جميع الوجودات الإلهية والامكانية فهو مقدم على جميع الأسماء ومقوم لكل واحد منها وإذا تقدم عليها فتقدم على جميع مظاهرها العلمية والعينية وإذا تقوم كل واحد منها به فكان مظهر كل واحد منها مظهره فكان مظهر كلها مظهره أيضا. فإذا كان العالم مظهر جميع الأسماء الإلهية فكان مظهر الاسم الله وصورته فان المراد بالمظهر والصورة واحد. قال الفيلسوف الإلهي والعارف الرباني مولانا وقائدنا صدر الدين الشيرازي، نور الله برهانه، في الشواهد الربوبية بهذه العبارة: (فالعالم صورة الحق واسمه، والغيب معنى الاسم الباطن والشهادة معنى الاسم الظاهر، وهذا أيضا من الحكمة التي لا يمسها الا المطهرون). أقول، الاسم عين المسمى فالعالم صورة الاسم الله، وهو المطلوب. اما الكبرى فنقول في بيانه المظهر قد يعنى به محل ظهور الشئ من باب اسم المكان كالمرأة التي يظهر فيها صورة الأشياء، وهو غير الظاهر وغير الصورة الظاهرة فيه، وقد يعنى به ما به يظهر الشئ من باب المصدر الميمي كالصور التي في المرآة فان بها يظهر ذوات الصور. ثم انه قد يكون تاما بان يكون لا حيث ولا جهة في الامر الظاهر فيه الا وهو يظهر في ذلك المظهر ولا ستر ولا حجاب في المظهر عما في الامر الظاهر فيه أصلا، وحينئذ يكون الظاهر والمظهر والظهور كلها عينا واحدة لا مغايرة لها أصلا لا في الذات ولا في الاعتبار كما يقال في الفلسفة: العقل والعاقل والمعقول كلها امر واحد بلا تغاير في الذات والاعتبار. وذلك إذا كان الشئ متجليا لذاته بذاته في ذاته، فيكون التجلي عين المتجلي كالهوية المتعينة بالتعين الأول في الأحدية الذاتية فإنها تظهر في تلك المرتبة لذاتها بذاتها. ولعل ذلك الظهور لا يمكن ولا يكون الا للواجب الوجود بالذات لان ما سواه يحجب بنفسه عنه تعالى، بل عن نفس ذاته أيضا بوجه، فان حقيقة ذاته مستور عنه كما أشير إليه في قوله تعالى: (النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم). وان كان غير محتجب عن نفسه بوجه، لأنه لا يغيب عن نفسه وإنيته. وقد لا يكون تاما بان يكون بحيث ظهر فيه من المتجلي شئ وتجلى فيه منه شئ لقصورها عن ظهور المتجلي بتمامه فيه، وذلك عند كون التجلي غير المتجلي، فحينئذ يكون التجلي مظهرا بوجه و حجابا بوجه، كيف لا، والتجلي ينحط عن المتجلي ورتبته دون رتبة المتجلي فهو حجاب ذاته وستر كماله. وذلك كأسمائه تعالى، فإنها، وان كانت مظاهره، لكنها نقب وجهه و
(١١٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 108 109 110 111 112 117 117 118 119 127 128 ... » »»