بالنيران ونسوا نعيم الرضوان، قالوا: (سواء علينا أجزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص). فعند ذلك تعلقت الرحمة بهم ورفع عنهم العذاب، مع أن العذاب بالنسبة إلى العارف الذي دخل فيها، بسبب الأعمال التي تناسبها، عذب من وجه، وإن كان عذابا من وجه آخر. كما قيل:
وتعذيبكم عذب وسخطكم رضى وقطعكم وصل وجوركم عدل لأنه يشاهد المعذب في تعذيبه، فيصير التعذيب سببا لشهود الحق، وهو أعلى ما يمكن من النعيم حينئذ في حقه. وبالنسبة إلى المحجوبين الغافلين عن اللذات الحقيقية أيضا عذب من وجه، كما جاء في الحديث: (إن بعض أهل النار يتلاعبون فيها بالنار). والملاعبة لا ينفك عن التلذذ وإن كان معذبا، لعدم وجدانه أنه ما أمن به من جنة الأعمال التي هي الحور والقصور.
وبالنسبة إلى قوم يطلب استعدادهم البعد من الحق والقرب من النار، و هذا المعنى بجهنم أيضا عذب، وإن كان في نفس الأمر عذابا. كما يشاهد هنا ممن يقطع سواعدهم ويرمى أنفسهم من القلاع، مثل بعض الملاحدة. ولقد شاهدت رجلا سمر في أصول أصابع إحدى يديه خمسة مسامير غلظ، كل مسمار مثل غلظ القلم، واجتهد المسمر ليخرجه من يده، فما رضى بذلك وكان يفتخر به، وبقى على حاله إلى أن أدركه الأجل.
وبالنسبة إلى المنافقين الذين لهم استعداد الكمال واستعداد النقص، وإن كان أليما لإدراكهم الكمال أو عدم إمكان وصولهم إليه، لكن لما كان استعداد نقصهم أغلب، رضوا بنقصانهم، وزال عنهم تألمهم بعد انتقام المنتقم منهم بتعذيبهم، وانقلب العذاب عذابا. كما نشاهد ممن لا يرضى بأمر خسيس أولا، ثم إذا وقع فيه وابتلى به وتكرر صدوره منه، تألف به واعتاد، فصار يفتخر به بعد أن كان يستقبحه.
وبالنسبة إلى المشركين الذين يعبدون غير الله من الموجودات، فينتقم منهم المنتقم، لكونهم حصروا الحق فيما عبدوه وجعلوا الإله المطلق مقيدا. وأما من (*)