شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ٩٩
عنصرا أو معدنا أو نباتا أو حيوانا. فان لكل منها روحا وقوى روحانية وله نصيب من عالمه والا لم تكن العوالم متطابقة، غاية ما في الباب انه في الجمادات غير ظاهر كظهوره في الحيوان، قال الله تعالى: و (وان من شئ الا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم). وقد جاء في الخبر الصحيح ما يؤيد ذلك من مشاهدة الحيوانات أمورا لا يشاهدها من بنى آدم الا أرباب الكشف أكثر من ان تحصى. و ذلك الشهود يمكن ان يكون في عالم المثال المطلق ويمكن ان يكون في المثال المقيد، والله اعلم بذلك. ولعدم شهود المحجوبين من الانسان جعلهم الله أسفل سافلين. والسالك إذا اتصل في سيره إلى المثال المطلق بعبوره عن خياله المقيد يصيب في جميع ما يشاهده ويجد الأمر على ما هو عليه لتطابقها بالصور العقلية التي في اللوح المحفوظ وهو مظهر العالم الإلهي، ومن هنا يحصل الاطلاع للانسان على عينه الثابتة وأحوالها بالمشاهدة لأنه ينتقل من الظلال إلى الأنوار الحقيقية كما يطلع عليها بالانتقال المعنوي، وسنبين ذلك، انشاء الله تعالى، في الفصل التالي.
وإذا شاهد أمرا ما في خياله المقيد يصيب تارة ويخطئ أخرى، وذلك لان المشاهد اما ان يكون أمرا حقيقيا أولا، فان كان، فهو الذي يصيب المشاهد فيه و الا فهو الاختلاق الصادر من التخيلات الفاسدة كما يختلق العقل المشوب بالوهم للوجود وجودا ولذلك الوجود وجودا آخر وللباري تعالى شريكا، وغيرها من الاعتباريات التي لا حقيقة لها في نفس الامر. قال تعالى: (ان هي الا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما انزل الله بها من سلطان). وللإصابة أسباب بعضها راجع إلى النفس وبعضها إلى البدن وبعضها إليهما جميعا. أما الأسباب الراجعة إلى النفس كالتوجه التام إلى الحق والاعتياد بالصدق وميل النفس إلى العالم الروحاني العقلي وطهارتها عن النقايص وإعراضها عن الشواغل البدنية واتصافها بالمجاهدة الخلقية، لان هذه المعاني توجب تنورها وتقويها وبقدر ما قويت النفس وتنورت يقدر على خرق العالم الحسى ورفع الظلمة الموجبة لعدم الشهود.
وأيضا يقوى بالمناسبة بينها وبين الأرواح المجردة لاتصافها بصفاتها (5)، فيفيض

(٥) - اعلم، ان للنفوس الشريفة الانسانية اتصالات بالمبادئ والأرواح الكلية الطولية من الأنوار القاهرة والنفوس المدبرة الإلهية، واختلاطات بالملأ الاعلى من مكان الجبروت، وانخراطات في سلك النساك المقدسة من قطائن الملكوت. ولكن نفس بحسب فطرتها مبدء يناسبها من عالم الجبروت ومدبر يربها من عالم الملكوت تستمد من الأول العلم و من الثاني القوة على العمل، وهما السائق والشهيد ولها مقر اصلى تأوى إليه من جناب اللاهوت كما قال عليه السلام: (أرواح الشهداء تأوى إلى قناديل من نور، معلقة تحت العرش). وكلما انجذبت إلى الجهة السفلية بالميل إلى اللذات الطبيعية احتجبت لغشاوتها عن ذلك الجناب وانقطع مددها من تلك الجهة فضعفت في الادراكات لاحتجابها عن قبول الاشراقات منه، وكلما توجهت إلى الجهة العلوية بالتنزه عن الهيئات البدنية والتجرد عن الملابس المادية والتقرب إلى الله بالعبادات الصالحة والنيات الخالصة، أمده الله بمناسبتها سكان حضرته امدادا علويا بالنور والعلوم فتعلم مالا يعلم غيرها من أبناء جنسها وتقدر على مالا يقدر عليه مثلها من بنى نوعها ويكون لها أوقات تنخرط فيها في سلك المقربين بالانخلاع عن بدنها في أوقات تبعد فيها عنهم بما هي ممنوة به من تدبير جسدها ففي أوقات اتصالها بالمبادئ وانخراطها في سلكها تتلقى الغيب منها، اما كما هو على سبيل الوحي والالهام والالقاء في الروع، واما على طريق الهتاف والسماع، واما على صورة كتابة في صحيفة تطالعه منها، وذلك بحسب جهة قبول لوح حسها المشترك و لا يتجسد لها الصور التي تناسبها في الحسن واللطافة، اما لقوة تخيلها لاستحكام الاتصال، واما بتمثلها في متخيلة الكل التي هي السماء الدنيا وانطباعها في متخيلتها بالانعكاس كما فيما بين المرايا المتقابلة فتخاطبها بصورة الغيب شفاها على ما يرى في المنامات الصادقة من غير فرق. فان الرؤيا الصادقة والوحي كلاهما من واد واحد لا فرق بينهما الا بالنوم واليقظة، فان صاحب الوحي يقدر على الغيبة من الحواس وعزلها عن أفعالها والاتصال بالمجردات لقوة نفسه وصاحب الرؤيا الصادقة يقع له ذلك بحكم الطبع وتلك الرؤيا لا تحتاج إلى تعبير. ولذا كان الرؤيا مقدمة وحيه ستة أشهر، إلى ان استحكمت المشاهدة وصارت في اليقظة وقد ينصرف المتخيلة في الحالين، أي النوم واليقظة، إلى اللوازم فتقع الاحتياج إلى التعبير. وقد يظهر على تلك النفس المتدربة بملكة الاتصال من خوارق العادات والكرامات ما ينكره من لا يعلم من المحجوبين بالعادة. وذلك اما لتأييد نفسه من عالم الملكوت، واما بصدور ذلك عن النفوس والمبادئ التي اتصلت بها لإجابة دعوتها باطاعتها لها باذن الله تعالى، والله اعلم بحقايق الأمور.
(٩٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 91 92 93 97 98 99 100 101 102 107 108 ... » »»