شرح فصوص الحكم - محمد داوود قيصري رومي - الصفحة ٤٤٠
المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين). فيكتسي كساء النبوة في التعريف والتشريع، ليكون ممدا لهم بإرجاعهم وإيصالهم إليه تعالى في رد تلك الأمانة. فإن التعريف والتشريع هما الهداية والإرشاد، ويلزم من ذلك كله رجوع الكل إلى الله تعالى: (ألا، إلى الله تصير الأمور. إنا لله وإنا إليه راجعون. فذكر بالقرآن من يخاف وعيد). أي، الذين يخاف وعيدي ذكرهم بزواله واجتماعهم معي، فإن القرآن هو الجمع. وذلك لأن الثناء بصدق الوعد، لا الوعيد، على أن صدقه لا ينافي، زواله فقد نهى، سبحانه، عن اليأس بالكفر والمعصية من رحمة الله ووعدهم بالغفران عن الذنوب جمعيا و وصف نفسه بأنه هو الغفور الرحيم ووجب عليه الوفاء بوعده لأنه لطلب الثناء المحمود فيلزم أن يكون مثال الكل إلى الرحمة. وقوله تعالى: (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك) وعيد، والوعيد لا يكون إلا للتخويف والاتقاء كما قال: (وما نرسل بالآيات (أي آيات الوعيد) إلا تخويفا)، (ولعلهم يتقون) وأيضا وعد بالتجاوز فقال: (وتتجاوز عن سيئاتهم، فلا تحسين الله مخلف وعده رسله). جف القلم بما هو كائن. والبرهان العقلي عليه عدم دوام القسر، وطلب كل شئ كماله وأصل حقيقته. وآيات الخلود لا ينافيه، لأنه ما دامت السماوات والأرض، أي، ما دام بقاء آثار طبائع العلوية و السفلية في أهل النار. كيف، وقد قال الله تعالى: (قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جمعيا). ولا إسراف على النفس إلا بالكفر و المعصية، والله هو العالم بسرائر الأمور. ولست أقول إلا ب (أن رحمة الله واسعة) وسبقت رحمته غضبه، إن الله يفعل في ملكه ما يشاء.
فليرجع إلى بيان أمر الولاية ومراتب الختم فيها، ونقول من رأس: الولاية صفة إلهية و شأن من الشؤون الذاتية التي تقتضي الظهور، وأشار إليه بقوله: (وهو الولي الحميد). و تلك الصفة عامة بالقياس إلى ما سوى الله، ليس مقيسا إلى بعض دون بعض لاستواء نسبته إلى الأشياء. عن الموسى الكاظم، عليه السلام، في تفسير قوله: (على العرش استوى): (أي، استوى على كل شئ، فليس شئ أقرب إليه من شئ). وفي رواية:
(استوى في كل شئ، فليس شئ أقرب إليه من شئ، لم يبعد عنه بعيد، ولم يقرب منه قريب). فصورته أيضا شاملة لجميع ما سوى الله تعالى، وليست صورة شاملة لجميع ما سوى الله سوى العين الثابت المحمدي، فصورة ذلك الاسم هي الحقيقة المحمدية، صلى الله عليه وآله، وقد كانت صورة لاسم (الله) الجامع. والصورة الواحدة لا تكون صورة للمتمايزين في العرض، فالإسمان في طول الترتيب: واسم الولي باطن اسم الله، لأن الولاية أخفى من الإلهية، فالولاية باطن الإلهية فهي السر المستتر والسر المقنع بالسر، والإلهية باطن الحقيقة المحمدية، فالولاية باطن الحقيقة المحمدية، وتلك الحقيقة ظاهر هما وصورتهما، والظاهر عين الباطن والباطن عين الظاهر، والفرق والأثنوة في التمايز العقلي، وقد اتحدا في الوجود الوجوبي:
فكأنما خمر ولا قدح * وكأنما قدح ولا خمر فالحقيقة المحمدية هي الولاية المطلقة الإلهية التي ظهرت بأوصاف كماله ونعوت جماله، وهي النبوة المطلقة الجامعة للتعريف والتشريع. وقد سمعت مرارا أن ظهور الشئ كشفه بوجه وحجابه بوجه، فتسترت الولاية بالنبوة واختفيت فيها. ولعمري لو لم تختف فيها ولم تعم في ذلك العماء ولم يكتس ذلك الكساء وظهرت بذاته الساذجة الصرفة، لاحترقت الحقيقة، وباحتراقها احترقت السماوات والأرض وما بينهما، فإنها محتدها و أصلها ومرجعها، ولم يكن في الوجود إلا الله الواحد القهار. وإليه أشار بقوله، عز شأنه:
(لولاك لما خلقت الأفلاك).
ثم ظهرت الولاية المطلقة الإلهية المحمدية بنعت الولاية والصورة الولوية، فصارت ولى الله وخليفة الله وخليفة رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم ظهرت كل يوم في شأن من شؤونها وفي كل مظهر بنعت من نعوتها، فصارت حجج الله وخلفائه وخلفاء رسوله، إلى أن ظهرت بجميع أوصافها، فصارت قائمهم ومظهرهم ومظهر أوصافهم، وكلهم نور واحد وحقيقة واحدة، واختلافهم في ظهور أوصاف حقيقتهم الأصلية، وهي الولاية المطلقة الإلهية المحمدية. لست أقول باختلاف أعيانهم الثابتة، بل عين واحد ثابتة في علم الغيب الإلهي، يختلف ظهوراته العلمية في ذلك الموطن. فاسمع ما أقول لتتصور ذلك. أقول: أنت تعقل معنى المقدار، مثلا، بعقلك المجرد، فذلك المعنى صورة عقلية مجردة بلا تقدر وتشكل، ثم تتخيل ذلك المعنى المجرد الكلى بقوتك الخيالية، صار ذلك المعنى صورة مقدارية، ولست تضيف إليه شيئا ولا تسقط منه شيئا. فالمعنى الواحد ظهر مرة مجردة كلية، ومرة مقدرة جزئية، وليس بينهما اختلاف بزيادة شئ عليه أو نقصان شئ منه، وإنما الاختلاف بالتشأن والظهور.
فإن قلت: الاختلاف بتجريد العقل وتلبيس الخيال.
قلت: لا، العقل لا يجرد المقدر عن نفسه والخيال لا يلبسه نفسه. فاجعله مرقاة لمعرفة العين الواحدة أعيانا متعددة بلا اختلاف في الذات والعوارض. فالعين الثابت المحمدي عين أعيان أوصيائه وخلفائه، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين. فإذا كانت الولاية واحدة ولا اختلاف إلا في الظهور بالأوصاف الذاتية الكامنة، فصدق بقوله:
(أولنا محمد وآخرنا محمد ووسطنا محمد وكلنا). ولا تقف في ظاهر المعنى وهو المسمى بمحمد أولا ووسطا وآخرا، مع أن قوله: (وكنا محمد) يدفعه. وحينئذ يرتفع الخلاف و التناقض في قولنا تارة: خاتم الولاية المحمدية أمير المؤمنين، على بن أبى طالب، عليه السلام، وتارة: أنه هو المهدى المنتظر، عجل الله تعالى فرجه، لأنهما، بل أنهم، نور واحد وحقيقة واحدة بالذات والصفات، والاختلاف في الشؤون والظهورات على حسب اقتضاء الأوصاف والأوقات والحكمة البالغة الإلهية. فظهر أن خاتم الولاية المحمدية هي الحقيقة المحمدية التي خلعت لباس النبوة واكتست كساء الولاية وظهرت في صورة أوصيائه المعصومين. فأن شئت قلت أمير المؤمنين، وإن شئت قلت بأي إمام من الأئمة المعصومين، إلا أن قائمهم أولى بذلك لظهور جمعية الأوصاف فيه. ولما كان الأمر في عالم العلم والغيب كذلك، ففي عالم العين والشهادة أيضا كذلك. ثم تلك الولاية الإلهية المحمدية إذا نزلت عن مقام مواقف الوجوب إلى منازل الإمكان، كان أولى منازله مقام الروح الإلهي، وهو مقام عيسى بن مريم، على نبينا وآله وعليه السلام. والدليل عليه قوله تعالى: (وكلمة ألقيها إلى مريم وروح منه). فكان روح الله، وكان وليا لقربه إلى الحق، وكان ختم الأولياء في الكون، لأنه لا أقرب منه إلى الله في الشهادة، فإنه فاتحة الوجود والفاتحة هي الخاتمة، وكان ولايته مستورة في نبوته، لأن عالم الشهادة يوافق عالم الغيب، والولاية في عالم الغيب مستورة في النبوة وستظهر بالولاية عند نزوله لتوافق ظهوراته في الغيب والشهادة، ويظهر بالولاية بعد النبوة بنفسه، ليعلم أن أمير المؤمنين نفس الرسول ظهرت بالولاية. والدليل عليه قوله تعالى: (أنفسنا وأنفسكم). فدعى أمير المؤمنين، عليه السلام، نفس محمد، صلى الله عليه وآله. وإنما قلنا أنه ختم الأولياء في الكون لبقاء حكم إمكانه. والدليل عليه عدم جامعيته، لأن من تحقق بالوجود الحقاني و تجاوز عن درجة الإمكان، كان وجوده جمعيا لا فرقيا، ولكونه روحا، والروح من الممكنات. وأما رسول الله، صلى الله عليه وآله، فقد تجاوز عن حد الإمكان وكان وجوده جمعيا إلهيا، أشار إليه بقوله: (شيطاني أسلم بين يدي)، (فكان قاب قوسين أو أدنى). و لذلك كان علماء أمته أفضل من أنبياء بنى إسرائيل، فإنهم يطيرون عن قفص الإمكان إلى