بداية الحكمة - السيد محمد حسين الطباطبائي - الصفحة ١٧٩
وقد قسموا عالم المثال إلى المثال الأعظم القائم بذاته، والمثال الأصغر القائم بالنفس، الذي تتصرف فيه النفس كيف تشاء بحسب الدواعي المختلفة الحقة والجزافية، فتأتي أحيانا بصور حقة صالحة وأحيانا بصور جزافية تعبث بها.
والعوالم الثلاثة المذكورة مترتبة طولا، فأعلاها مرتبة وأقواها وأقدمها وجودا وأقربها من المبدأ الأول (تعالى) عالم العقول المجردة، لتمام فعليتها وتنزه ذواتها عن شوب المادة والقوة، ويليه عالم المثال المتنزه عن المادة دون آثارها، ويليه عالم المادة موطن كل نقص وشر، ولا يتعلق بما فيه علم إلا من جهة ما يحاذيه من المثال والعقل.
الفصل الثالث ينقسم العلم انقساما آخر إلى كلي وجزئي والمراد بالكلي ما لا يتغير بتغير المعلوم بالعرض، كصورة البناء التي يتصورها البناء في نفسه ليبني عليها، فالصورة عنده على حالها قبل البناء، ومع البناء، وبعد البناء، وإن خرب وانهدم، ويسمى: " علم ما قبل الكثرة "، والعلوم الحاصلة من طريق العلل كلية من هذا القبيل دائما، كعلم المنجم بأن القمر منخسف يوم كذا ساعة كذا إلى مدة كذا يعود فيه الوضع السماوي بحيث يوجب حيلولة الأرض بينه وبين الشمس، فعلمه ثابت على حاله قبل الخسوف، ومعه، وبعده.
والمراد بالجزئي ما يتغير بتغير المعلوم بالعرض، كما إذا علمنا من طريق الإبصار بحركة زيد، ثم إذا وقف عن الحركة تغيرت الصورة العلمية من الحركة إلى السكون، ويسمى: " علم ما بعد الكثرة ".
فإن قلت: التغير لا يكون إلا بقوة سابقة، وحاملها المادة، ولازمه كون العلوم الجزئية مادية، لا مجردة.
قلنا: العلم بالتغير غير تغير العلم، والمتغير ثابت في تغيره، لا متغير، وتعلق العلم به (1) - أعني حضوره عند العالم - من حيث ثباته، لا تغيره، وإلا لم يكن

(1) أي المتغير.
(١٧٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 174 175 176 177 178 179 180 181 182 183 184 ... » »»