الثقافة الروحية في إنجيل برنابا - محمود علي قراعة - الصفحة ٣٤٦
للقلب، يثمرها نوع من المعرفة، وتثمر أعمالا في الجوارح وفي القلب، بمراعاة القلب للرقيب واشتغاله به، والعلم بأن الهل مطلع على الضمائر، عالم بالسرائر، رقيب على أعمال العباد، والموقنون بهذه المعرفة هم المقربون، فمراقبة الصديقين منهم هي مراقبة التعظيم والإجلال، وهو أن يصير القلب مستغرقا بملاحظة ذلك الجلال، فلا يبقى فيه متسع للإلتفات إلى الغير أصلا، وهذه مراقبة مقصورة على القلب، أما الجوارح فإنها تتعطل عن الالتفات إلى المباحات فضلا عن المحظورات، وإذا تحركت بالطاعات، كانت كالمستعملة بها، فلا تحتاج إلى تدبير وتثبيت في حفظها على سنن السداد والاستقامة من غير تكلف!
أما الورعون أصحاب اليمن، فهم قوم غلب يقين اطلاع الله على قلوبهم، ولكن لم تدهشهم ملاحظة الجلال، بل بقيت قلوبهم على حد الاعتدال متسعة للتلفت إلى الأحوال والأعمال، إلا أنها مع ممارسة الأعمال لا تخلوا عن المراقبة وقد غلب عليهم الحياء من الله، فلا يقدمون ولا يحجمون إلا بعد التثبت فيه، فإنهم يرون الله في الدنيا مطلعا عليهم (على ظاهرهم وباطنهم)، فلا يحتاجون إلى انتظار القيامة، ومن كان في هذه الدرجة، فيحتاج أن يراقب جميع حركاته وسكناته وخطراته ولحظاته، وبالجملة جميع اختياراته (بأن يسأل نفسه لم؟
وكيف؟ ولمن؟) عند همه بالفعل فيتوقف، حتى ينكشف له بنور العلم، أنه لله تعالى فيمضيه، أو هو لهوى نفس فيتقيه، والعبد لا يخلو، إما أن يكون في طاعة أو في معصية أو في مباح، فمراقبته في الطاعة بالإخلاص والإكمال وحراستها عن الآفات، وإن كان في معصية فمراقبته بالتوبة والندم والحياء والاشتغال بالتفكر، وإن كان في مباح، فمراقبته بمراعاة الأدب، ثم بشهود المنعم في النعمة، وبالشكر عليها، والصبر على البلية!
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " نية المرء خير من عمله "، ويقول الغزالي إن معناه إن نية المؤمن من جملة طاعته، خير من عمله الذي هو من جملة طاعته، والغرض أن للعبد اختيارا في النية وفي العمل، والنية من الجملة خيرهما (لأن القلب على الجملة أفضل من حركات الجوارح، والنية ميل القلب إلى الخير وإرادته له)، والأعمال وإن انقسمت أقساما كثيرة، من فعل
(٣٤٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 341 342 343 344 345 346 347 348 349 350 351 ... » »»