الثقافة الروحية في إنجيل برنابا - محمود علي قراعة - الصفحة ٣٠١
تغليب روحية اللذات في الجنة:
الإسلام دين روحانيات ومعنويات، وهو عند ذكر الماديات الأخروية، لا يريد بها جزاءها الحسى فحسب، بل يريد بها جزاءها المعنوي الروحي أيضا، وإن أراد ببعضها اللذة الحسية، فإنه لا يريدها حقيرة متواضعة، كما هي في دنيانا، بل يريدها عزيزة تتصل أكبر ما تتصل بالروحانيات والمعنويات (1) "!
واللذة سواء أكانت حسية أم معنوية، تتصل أكبر ما تتصل بالتفاعلات النفسية، وتقرب كل القرب من الروح! وبضم الحاسة الفنية نكاد نتفق في إعزاز الجزء الروحي في كل حاصة من الحواس الخمس، وإكبار شأوه وفهم أنه أسمى جزئياتها! فأنت إذا رأيت مثلا منظرا جميلا، هل تستطيع أن تقدر لطربك الروحي من رؤية هذا المنظر أقل من تسعة أعشار ما يشع عليك من سرور؟
والإنسان كما يمكنه أن يسمو بلذته الحسية إلى حيث مرقاة الروح، يستطيع أن ينزل بها إلى حيث يريد من النزول! فعند سماعك لغناء، تستطيع أن ترقى به، وتستطيع أن تجعله ينزل بك، فإذا سمعت غناء من ذي صوت جميل، لتقديس الله بالتفكر في جمال الحناجر التي خلقها، فأنت رجل روح تتمتع بلذة السماع.
وهي لذة حسية، وترتفع بها إلى جعلها ترقى بروحك وبنفسك، وأما إذا كنت تسمع صوتا جميلا من جميل، وتريد بسماعك ومن حركات المغني تحريك شهواتك، فأنت نازل بلذتك الحسية إلى الحضيض، ولذا قرر السهروردي حل الغناء في الأولى، وحرمته في الثانية!
فحسية اللذات لا تمنع من روحانيتها، لأن اللذة معنى لا يحس، وأنها إذا نسبت لما ينتجها، فليس هذا إنزالا لها من عالمها إلى عالم المادة أو الحس (2).
ويتوصل بتصور ما في الدنيا من العسل واللبن والماء والخمر والحرير والذهب والفضة، إلى تصور ما أخبر الله تعالى به من ذلك في الجنة، ولكن لا يلزم

(١) راجع ص ٣١٥ س ١٢٦ ع ١٤٥ من مجلة الرسالة لمحمود علي قراعة.
(٢) راجع مجلة الرسالة العدد 316 س 7 ص 1473 و 1474 لمحمود علي قراعة.
(٣٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 296 297 298 299 300 301 302 303 304 305 306 ... » »»