أولى، وأجدر من التمسك والتشديد في مسائل وقد رخص فيها ومع ذلك فلسنا نحن مأمورين بأتباع أهل مكة في سائر الأقوال والأفعال وإنما أمرنا باتباع النبي صلى الله عليه و سلم قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة * الأحزاب: 21) ولم يقل كان لكم في أهل مكة آية أسوة فأهل مكة كغيرهم من سائر المسلمين مأمورون هم أيضا باقتداء النبي صلى الله عليه وسلم. لا أن يقتدي بهم وحدهم فمسألة القبض والسدل إذن ليست بمسألة مكيين أو مدنيين حتى نحتاج إلى التقيد بما هنالك. ولكنها مسألة مرئية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كباقي المسائل الفقهية.
وقد ثبتت في الآثار الصحيحة مشروعية كل من القبض والسدل وأنهما من فعل المعصوم صلى الله عليه وسلم ولا يتصور أن يكون الإمام مالك رضي الله عنه قد اختار السدل من تلقاء نفسه، أو أمر به بمجرد هواه وحاشاه أن يفعله أو يأمر به دون أن تكون له أسانيد صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك، ولا يليق بنا أن ننكر عليه أو نعارضه في أية مسألة من المسائل الفقهية لا في السدل ولا في غيره لأنه أعلم منا بصلاة رسول الله وأفقهنا بحكم القبض والسدل وهو رضي الله عنه إمام فقهاء عصره وقدوتهم على الاطلاق ومذهبه عمري على المشهور. وحسبه فخرا كونه إماما لدار الهجرة وعالم المدينة المنورة على التحقيق وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في حقه: (لا تقوم الساعة حتى يظهر عالم المدينة) وقال أيضا: (يخرج الناس من المشرق إلى المغرب في طلب العلم فلا يجدوا أعلم من عالم المدينة.) وسئل أبو حنيفة عن مالك فقال: " ما رأيت أعلم منه بسنة رسول الله منه " و مناقب الإمام مالك رضي الله عنه أظهر من شمس الضحى وأكثر من أن تعد أو تحصى.
هذا ومن الواضح جدا أن منكري السدل الطاعنين به غير مقيدين بقوانين الفقه و الحديث. وليسوا بمتفقهين بالمعنى الصحيح لقد ثبت السدل عن كثير من الصحابة كأبي بكر الصديق وعلي ابن أبي طالب وأبي هريرة وسعد بن سهل ومعاذ بن جبل وعبد الله ابن الزبير وأبي حميد الساعدي وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين. فالطعن على المسدلين طعن لجميع هؤلاء الصحابة والعياذ بالله من ذلك. ومعلوم أن أصحاب رسول الله كالنجوم بأيهم اقتدينا اهتدينا.