شرح المقاصد في علم الكلام - التفتازاني - ج ٢ - الصفحة ٨٧
الفعل وإرادة الله تعالى علم خاص وعلمه وقدرته أزليان غير زائدين على الذات فلهذا كان العالم قديما والصانع موجبا بالذات والحق أن هذا قول بالقدرة والإرادة لفظا لا معنى قال المبحث الثالث في أنه عالم اتفق عليه جمهور العقلاء والمشهور من استدلال المتكلمين وجهان الأول أنه فاعل فعلا محكما متقنا وكل من كان كذلك فهو عالم أما الكبرى فبالضرورة وينبه عليه أن من رأى خطوطا مليحة أو سمع ألفاظا فصيحة تنبئ عن معان دقيقة وأغراض صحيحة علم قطعا أن فاعلها عالم وأما الصغرى فلما ثبت من أنه خالق للأفلاك والعناصر ولما فيها من الأعراض والجواهر وأنواع المعادن والنبات وأصناف الحيوانات على اتساق وانتظام وإتقان وإحكام تحار فيه العقول والأفهام ولا تفي بتفاصيلها الدفاتر والأقلام على ما يشهد بذلك علم الهيئة وعلم التشريح وعلم الآثار العلوية والسفلية وعلم الحيوان والنبات مع أن الإنسان لم يؤت من العلم إلا قليلا ولم يجد إلى الكنه سبيلا فكيف إذا رقي إلى عالم الروحانيات من الأرضيات والسمويات وإلى ما يقول به الحكماء من المجردات * (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون) * فإن قيل إن أريد الانتظام والأحكام من كل وجه بمعنى أن هذه الآثار مرتبة ترتيبا لا خلل فيه أصلا وملائمة للمنافع والمصالح المطلوبة منها بحيث لا يتصور ما هو أوفق منه وأصلح فظاهر أنها ليست كذلك بل الدنيا طافحة بالشرور والآفات وإن أريد في الجملة ومن بعض الوجوه محل آثار المؤثرات من غير العقلاء بل كلها كذلك وأيضا قد أسند جمع من العقلاء الحكماء عجائب خلقة الحيوان وتكون تفاصيل الأعضاء إلى قوة عديمة الشعور سموها المصورة فكيف يصح دعوى كون الكبرى ضرورية قلنا المراد اشتمال الأفعال والآثار على لطائف الصنع وبدائع الترتيب وحسن الملائمة للمنافع والمطابقة للمصالح على وجه الكمال وإن اشتمل بالفرض على نوع من الخلل وجاز أن يكون فوقه ما هو أكمل والحكم بأن مثل ذلك لم يصدر إلا عن العالم ضروري سيما إذا تكرر وتكثر وخفاء الضروري على بعض العقلاء جائز وما يقال لم لا يكفي الظن مدفوع بالتكرر والتكثر وبأنه يكفي في إثبات غرضنا التصور الثاني أنه قادر أي فاعل بالقصد والاختيار لما مر ولا يتصور ذلك إلا مع العلم بالمقصود فإن قيل قد يصدر عن الحيوانات العجم بالقصد والاختيار أفعال متقنة محكمة في ترتيب مساكنها وتدبير معايشها كما للنحل والعنكبوت وكثير من الوحوش والطيور على ما هو في كتب مسطور وفيما بين الناس مشهور مع أنها ليست من أولى العلم قلنا لو سلم أن موجد هذه الآثار هو هذه الحيوانات فلم لا يجوز أن يكون فيها من العلم قدر ما يهتدي إلى ذلك يخلقها الله تعالى عالمة بذلك
(٨٧)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 82 83 84 85 86 87 88 89 90 91 92 ... » »»