الذات تعقله كتساوي الزوايا الثلاث للقائمتين للمثلث ولو وجب ذلك لزم من العلم بالشيء العلم بجميع لوازمه القريبة والبعيدة لاستمرار الاندفاع من لازم إلى لازم وأجيب بأن الكلام في العلم التام أعني العلم بالشيء بما له في نفسه ولا شك أن علم الباري بذاته كذلك قال وقيل لا يعلم ذاته القائلون بأنه ليس بعالم أصلا تمسكوا بوجهين أحدهما أنه لا يصح علمه بذاته ولا بغيره أما الأول فلأن العلم إضافة أو صفة ذات إضافة وأيا ما كان يقتضي إثنينية وتغايرا بين العالم والمعلوم فلا يعقل في الواحد الحقيقي وأما الثاني فلأنه يوجب كثرة في الذات الأحدي من كل وجه لأن العلم بأحد المعلومين غير العلم بالآخر للقطع بجواز العلم بهذا مع الذهول عن الآخر ولأن العلم صورة مساوية للمعلوم مرتسمة في العالم أو نفس الارتسام ولا خفاء في أن صور الأشياء المختلفة مختلفة فيلزم بحسب كثرة المعلومات كثرة الصور في الذات وثانيهما أن العلم مغاير للذات لما سبق من الأدلة فيكون ممكنا معلوما له ضرورة امتناع احتياج الواجب في صفاته وكمالاته إلى الغير فيلزم كون الشيء قابلا وفاعلا وهو محال وأجيب عن الوجه الأول أولا بعد تسليم لزوم التغاير على تقدير كون العلم صفة ذات إضافة بأن تغاير الاعتبار كاف كما في علمنا بأنفسنا على ما سبق في بحث العلم لا يقال التغاير الاعتباري إنما هو بالعالمية والمعلومية وهو فرع حصول العلم فلو توقف حصول العلم على التغاير لزم الدور وإنما يرد النقض بعلمنا بأنفسنا لو كانت النفس واحدة من كل وجه كالواجب وهو ممنوع فيجوز كونها عالمة من وجه معلومة من وجه لأنا نقول إنما يلزم الدور لو كان توقف العلم على التغاير توقف سبق واحتياج وهو ممنوع بل غايته أنه لا ينفك عن العلم كما لا ينفك المعلول عن علته والمراد بالنقض أن النفس تعلم ذاته التي هي عالمة لا أن يكون العالم شيئا والمعلوم شيئا آخر وثانيا بأن علمه ليس إلا تعلقا بالمعلوم من غير ارتسام صورة في الذات فلا كثرة إلا في التعلقات والإضافات وتحقيقه على ما ذكر بعض المتأخرين أن حصول الأشياء له حصول للفاعل وذلك بالوجوب وحصول الصور المعقولة لنا حصول للقابل وذلك بالإمكان ومع ذلك فلا تستدعي صورا مغايرة لها فإنك تعقل شيئا بصورة تتصورها أو تستحضرها فهي صادرة عنك بمشاركة ما من غيرك وهو الشيء الخارجي ومع ذلك فإنك لا تعقل تلك الصورة بغيرها بل كما تعقل ذلك الشيء بها كذلك تعقلها أيضا بنفسها من غير أن تتضاعف الصور فيك وإذا كان حالك مع ما يصدر عنك بمشاركة غيرك بهذه الحال فما ظنك بحال من يعقل ما يصدر عنه لذاته من غير مداخلة الغير فيه ثم ليس كونك محلا لتلك الصورة شرطا في التعقل بدليل أنك تعقل ذاتك بدون ذلك بل المعتبر حصول الصورة لك حالة كانت أو غير حالة والمعلولات الذاتية للعاقل الفاعل لذاته حاصلة له من غير حلول فيه فهو عاقل إياها من غير أن تكون حالة فيه على أن كثرة الصفات في الذات لا يمتنع عندنا بل عند الفلاسفة وأتباعهم
(٨٩)