شرح المقاصد في علم الكلام - التفتازاني - ج ٢ - الصفحة ٢٠١
وأفضل من الأخرى إذا استويا في المقدار وباقي الصفات وعبادة الملائكة أكثر وأدوم فإنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون والإخلاص الذي به القوام والنظام واليقين الذي هو الأساس والتقوى التي هي الثمرة فيهم أقوى وأقوم لأن طريقهم العيان لا البيان والمشاهدة لا المراسلة لأنا نقول انتفاء الشواغل في حقهم مما لم ينازع فيه أحد ووجود المشقة والألم في العبادة والعمل عند عدم المنافي والمضاد مما لا يعقل قلت أو كثرت وكون باقي الصفات في حق الأنبياء أضعف وأدنى مما لا يسمع ولا يقبل وقد يتمسك بأن للملائكة عقلا بلا شهوة وللبهائم شهوة بلا عقل وللإنسان كليهما فإذا ترجح شهوته على عقله يكون أدنى من البهائم لقوله تعالى * (بل هم أضل) * فإذا ترجح عقله على شهوته يجب أن يكون أعلى من الملائكة وهذا عائد إلى ما سبق لأن تمام تقريره هو أن الكافر آثر النقصان مع التمكن من الكمال وكل من فعل كذا فهو أضل وأرذل ممن آثره بدونه لأن إيثار الشيء مع وجود المضاد والمنافي أرجح وأبلغ من إيثاره بدونه فيلزم أن يكون من آثر الكمال مع التمكن من النقصان أفضل وأكمل ممن آثره بدونه وأما التمسك بقوله تعالى * (ولقد كرمنا بني آدم) * والتكريم المطلق لأحد الأجناس يشعر بفضله على غيره فضعيف لأن التكريم المطلق لا يوجب التفضيل سيما مع قوله تعالى * (وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا) * فإنه يشعر بعدم التفضيل على القليل وليس غيرالملائكة بالإجماع كيف وقد وصف الملائكة أيضا بأنهم عباد مكرمون قال وتمسك المخالفون أيضا بوجوه نقلية وعقلية أما النقليات فمنها قوله تعالى * (ولله يسجد ما في السماوات وما في الأرض من دابة والملائكة وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) * خصصهم بالتواضع وترك الاستكبار في السجود وفيه إشارة إلى أن غيرهم ليس كذلك وأن أسباب التكبر والتعظم حاصلة لهم ووصفهم باستمرار الخوف وامتثال الأوامر ومن جملتها اجتناب المنهيات ومنها قوله تعالى * (ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * ووصفهم بالقرب والشرف عنده وبالتواضع والمواظبة على الطاعة والتسبيح ومنها قوله تعالى * (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) * إلى أن قال * (وهم من خشيته مشفقون) * وخصهم بالكرامة المطلقة والامتثال والخشية وهذه الأمور أساس كافة الخيرات والجواب أن جميع ذلك إنما يدل على فضيلتهم لا أفضليتهم سيما على الأنبياء ومنها قوله تعالى * (قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني) * فإن مثل هذا الكلام إنما يحسن إذا كان الملك أفضل والجواب أنه إنما قال ذلك حين استعجله قريش العذاب الذي أوعدوا به بقوله تعالى * (والذين كذبوا بآياتنا يمسهم العذاب بما كانوا يفسقون) * والمعنى أني لست بملك حتى يكون لي القوة والقدرة على إنزال العذاب بإذن الله كما كان لجبرائيل عليه السلام أو يكون لي العلم بذلك بإخبار من الله بلا واسطة ومنها قوله تعالى * (ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين) * أي إلا كراهة أن تكونا ملكين يعني أن الملكية بالمرتبة العليا وفي الأكل من الشجرة ارتقاء إليها والجواب أن ذلك تمويه من الشيطان وتخييل أن ما يشاهد في الملك من حسن الصور وعظم الخلق وكمال القوة يحصل بأكل الشجرة ولو سلم فغاية التفضيل على آدم عليه السلام قبل النبوة ومنها قوله تعالى * (علمه شديد القوى) * يعني جبرئيل عليه السلام والمعلم أفضل من المتعلم والجواب إن ذلك بطريق التبليغ وإنما لتعليم من الله تعالى ومنها قوله تعالى * (لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون) * أي لا يترفع عيسى في العبودية ولا من هو أرفع منه درجة كقولك لن يستنكف من هذا الأمر الوزير ولا السلطان ولو عكست أحلت بشهادة علماء البيان والبصراء بأساليب الكلام وعليه قوله تعالى * (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى) * أي مع أنهم أقرب مودة لأهل الإسلام ولهذا خص الملائكة بالمقربين منهم لكونهم أفضل والجواب أن الكلام سبق لرد مقالة النصارى وغيرهم في المسيح وادعائهم فيه مع النبوة البنوة بل الألوهية والترفع عن العبودية لكونه روح الله ولد بلا أب ولكونه يبرئ الأكمه والأبرص والمعنى لا يترفع عيسى عن العبودية ولا من هو فوقه في هذا المعنى وهم الملائكة الذين لا أب لهم ولا أم ويقدرون على مالا يقدر عليه عيسى عليه السلام ولا دلالة على الأفضلية بمعنى كثرة الثواب وسائر الكمالات ألا يرى أن فيما ذكرت من المثال لم يقصد الزيادة والرفعة في الفضل والشرف والكمال بل فيما هو مظنة الاستنكاف والرضا كالغلبة والاستكبار والاستعلاء في السلطان وقرب المودة في النصارى ومنها اطراد تقديم ذكر الملائكة على ذكرالأنبياء والرسل ولا يعقل له جهة سوى الأفضلية والجواب أنه يجوز أن يكون بجهة تقدمهم في الوجود أو في قوة الإيمان بهم والاهتمام به لأنهم أخفى فالإيمان بهم أقوى وبالتحريض عليه أحرى وأما العقليات فمنها أن الملائكة روحانيات مجردة في ذواتها متعلقة بالهياكل العلوية مبرأة عن ظلمة المادة وعن الشهوة والغضب اللذين هما مبدأ الشرور والقبائح متصفة بالكمالات العلمية والعملية بالعقل من غير شوائب الجهل والنقص والخروج من القوة إلى الفعل على التدريج ومن احتمال الغلط قوية على الأفعال العجيبة وإحداث السحب والزلازل وأمثال ذلك مطلعة على أسرار الغيب سابقة إلى أنواع الخير ولا كذلك حال البشر والجواب أن مبنى ذلك على قواعد الفلسفة دون الملة ومنها أن أعمالهم المستوجبة للمثوبات أكثر لطول زمانهم
(٢٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 196 197 198 199 200 201 203 204 205 206 207 ... » »»