شرح المقاصد في علم الكلام - التفتازاني - ج ٢ - الصفحة ١٩٩
أن الملائكة أجسام لطيفة تظهر في صور مختلفة وتقوى على أفعال شاقة هم عباد مكرمون يواظبون على الطاعة والعبادة ولا يوصفون بالذكورة والأنوثة واستقر الخلاف بين المسلمين في عصمتهم وفي فضلهم على الأنبياء ولا قاطع في أحد الجانبين فلنذكر تمسكات الفريقين في المقامين المقام الأول أعني العصمة فتمسك المثبتون بمثل قوله تعالى * (وهم لا يستكبرون يخافون ربهم من فوقهم ويفعلون ما يؤمرون) * وقوله تعالى * (بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون) * إلى قوله * (وهم من خشيته مشفقون) * وقوله تعالى * (لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون) * ولا خفاء في أن أمثال هذه العمومات تفيد الظن وإن لم تفد اليقين وما يقال أنه لا عبرة بالظنيات في باب الاعتقادات فإن أريد أنه لا يحصل منه الاعتقاد الجازم ولا يصح الحكم القطعي فلا نزاع فيه وإن أريد أنه لا يحصل الظن بذلك الحكم فظاهر البطلان تمسك النافون بوجوه الأول أن إبليس مع كونه من الملائكة بدليل تناول أمر الملائكة بالسجود في قوله تعالى * (وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم) * إياه ولذا عوتب بقوله تعالى * (ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك) * وبدليل صحة استثنائه منهم في قوله تعالى * (فسجدوا إلا إبليس) * وقوله تعالى * (فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس استكبر وكان من الكافرين) * ورد بالمنع بل * (كان من الجن ففسق عن أمر ربه) * وإنما درج في الملائكة على سبيل التغليب لكونه جنيا واحدا مغمورا فيما بينهم لا يقال معنى قوله كان من الجن صار أو كان من طائفة من الملائكة مسماة بالجن شأنهم الاستكبار لأنا نقول هذا مع كونه كلاما على السند خلاف الظاهر الثاني أن قولهم في جواب * (إني جاعل في الأرض خليفة) * * (أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) * اغتياب للخليفة واستبعاد لفعل الله تعالى بحيث يشبه صورة الإنكار بمعنى أنه لا ينبغي أن يكون واتباع للظن ورجم بالغيب فيما لا يليق وإعجاب بأنفسهم وتزكية لها وأمثال هذه تخل بالعصمة لا محالة والجواب أن الاغتياب إنما يكون حيث الغرض إظهار منقصة الغير والتزكية حيث الغرض إظهار منقبة النفس ولا يتصور ذلك بالنسبة إلى علام الغيوب بل الغرض التعجب والاستفسار عن حكمة استخلاف من ينصف بما لا يليق بذلك مع وجود الأولى والأليق وإنما علموا ذلك بإعلام من الله تعالى أو مشاهدة من اللوح أو مقايسة بين الجن والإنس بمشاركتهما في الشهوة والغضب المفضيين إلى الفساد وسفك الدماء لا يقال قوله تعالى * (أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين) * أي في أني أستخلف من يتصف بما ذكرتم ينافي كون ذلك متحققا معلوما لهم بإعلام من الله تعالى أو إخبار أو بمشاهدة من اللوح لأنا نقول المعنى إن كنتم صادقين في أني أستخلف من يتصف بذلك من غير حكم ومصالح
(١٩٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 194 195 196 197 198 199 200 201 203 204 205 ... » »»