الرؤية في أثناء كلام ينفي سمات الحدوث والزوال ويشتمل على آيات العظمة والجلال أعني قوله تعالى * (بديع السماوات والأرض) * إلى قوله * (وهو اللطيف الخبير) * فدل على جواز الرؤية ليصلح نفيها تمدحا وصار الحاصل أن نفي الرؤية عن الموجود الجائز الرؤية الخالي عن سمات النقص بل المقرون بصفات الكمال تمدح له فاعترض بأنه يجب أن لا يزول فلا يرى في الآخرة لأن زوال ما به التمدح نقص وأجيب بأن ذلك إنما هو فيما يرجع إلى الذات وصفاته والتمدح بنفي الرؤية راجع إلى صفات الفعل لأن الرؤية بخلق الله تعالى ونفيها بخلق ضدها والأفعال حادثة يجوز زوالها وزوال الممادح الراجعة إليها إذ لا يحصل بذلك تغير في القديم ولا نقص في الذات ولما لم يستقم هذا على رأي القائلين بقدم التكوين ومغايرته للمكون لم يحسن جعل هذا التمدح راجعا إلى الفعل لأنه لا مدح للشيء في أن لا يخلق الله تعالى في أعين الناس رؤيته بل ضدها لأن كل ما دب ودرج لا يرى إذا لم يخلق الله تعالى رؤيته في الأبصار أجاب بعضهم بأن إدراك البصر هو الإحاطة بجوانب المرئي والوقوف على حدوده ونهاياته والتمدح به إنما يكون على تقدير صحة الرؤية وانتفاء إمارات الحدوث وسمات النقص إذ لا تمدح بنفي الإدراك فيما تمتنع رؤيته التي هي سبب الإدراك كالمعدوم ولا فيما تصح رؤيته لكن عرف حدوثه ونقصه كالأصوات والروائح والطعوم واعلم أن مبنى هذا الاستدلال على أن يكون كل من قوله * (لا تدركه الأبصار) * وقوله * (وهو يدرك الأبصار) * تمدحا على حدة لا أن يكون المجموع تمدحا واحدا فليتأمل (قال الخامس) هذه ثانية الشبه السمعية وتقريرها أن الله تعالى خاطب موسى عليه السلام عند سؤاله الرؤية بقوله لن تراني وكلمة لن للنفي في المستقبل على سبيل التأبيد فيكون نصا في أن موسى عليه السلام لا يراه في الجنة أو على سبيل التأكيد فيكون ظاهرا في ذلك لأن الأصل في مثله عموم الأوقات وإذا لم يره موسى عليه السلام لم يره غيره إجماعا والجواب أن كون كلمة لن للتأبيد لم يثبت ممن يوثق به من أئمة اللغة وكونها للتأكيد وإن ثبت بحيث لا يمنع إلا مكابرة لكن لا نسلم دلالة الكلام على عموم الأوقات لا نصا ولا ظاهرا ولو سلم الظهور فلا عبرة به في العلميات سيما مع ظهور قرينة الخلاف وهو وقوعه جوابا لسؤال الرؤية في الدنيا على أنه لو صرح بالعموم وجب الحمل على الرؤية في الدنيا توفيقا بين الأدلة (قال السادس قوله تعالى * (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء) * سبقت الآية لنفي أن يراه أحد من البشر حين يكلمه الله تعالى فكيف في غير تلك الحالة ونزلت حين قالوا لمحمد عليه الصلاة والسلام ألا تكلم الله وتنظر إليه كما كلم موسى عليه السلام ونظر إليه فقال لم ينظر إليه موسى وسكت والمعنى ما صح لبشر أن يكلمه الله إلا كلاما خفيا بسرعة في المنام والإلهام أو صوتا من وراء حجاب كما كان لموسى عليه السلام أو على لسان ملك كما هو الشائع الكثير من حال الأنبياء
(١٢٢)