شرح المقاصد في علم الكلام - التفتازاني - ج ٢ - الصفحة ١١٦
الوقوع) الإجماع والنص لا خفاء في أن إثبات وقوع الرؤية لا يمكن إلا بالأدلة السمعية وقد احتجوا عليه بالإجماع والنص أما الإجماع فاتفاق الأمة قبل حدوث المخالفين على وقوع الرؤية وكون الآيات والأحاديث الواردة فيها على ظواهرها حتى روى حديث الرؤية أحد وعشرون رجلا من كبار الصحابة رضي الله عنهم وأما النص فمن الكتاب قوله تعالى * (وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة) * فإن النظر الموصول بإلى إما بمعنى الرؤية أو ملزوم لها بشهادة النقل عن أئمة اللغة والتتبع لموارد استعماله وإما مجاز عنها لكونه عبارة عن تقليب الحدقة نحو المرئي طلبا لرؤيته وقد تعذر ههنا الحقيقة لامتناع المقابلة والجهة فتعين الرؤية لكونها أقرب المجازات بحيث التحق بالحقائق بشهادة العرف والتقديم لمجرد الاهتمام ورعاية الفاصلة دون الحصر أو للحصر ادعاء بمعنى أن المؤمنين لاستغراقهم في مشاهدة جماله وقصر النظر على عظمة جلاله كأنهم لا يلتفتون إلى ما سواه ولا يرون إلا الله واعترض بأن إلى ههنا ليست حرفا بل اسما بمعنى النعمة واحد الآلاء وناظرة من النظر بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى * (انظرونا نقتبس من نوركم) * ولو سلم فالموصول بإلى أيضا قد يجيء بمعنى الانتظار كما في قول الشاعر (وجوه ناظرات يوم بدر * إلى الرحمن تأتي بالفلاح) وقوله (وشعث ينظرون إلى بلال * كما نظر الظماء إلى الغمام) وقوله (كل الخلائق ينظرون سجاله * نظر الحجيج إلى طلوع هلال) ولو سلم فالنظر الموصول بإلى ليس بمعنى الرؤية ولا ملزوما لها لاتصافه بما لا يتصف به الرؤية مثل الشدة والازورار والرضى والتجبر والذل والخشوع ولتحققه مع انتفاء الرؤية مثل نظرت إلى الهلال فلم أره قال الله تعالى * (وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون) * وجعله مجازا عن الرؤية ليس بأولى من حمله على حذف المضاف أي ناظرة إلى ثواب ربها على ما ذكره علي رضي الله عنه وكثير من المفسرين وبالجملة فلا خفاء في أن ما ذكرنا احتمالات تدفع الاحتجاج بالآية وأجيب بأن سوق الآية لبشارة المؤمنين وبيان أنهم يومئذ في غاية الفرح والسرور والإخبار بانتظارهم النعمة والثواب لا يلائم ذلك بل ربما ينافيه لأن الانتظار موتا أحمر فهو بالغم والحزن والقلق وضيق الصدر أجدر وإن كان مع القطع بالحصول على أن كون إلى اسما بمعنى النعمة لو ثبت في اللغة فلا خفاء في بعده وغرابته وإخلاله بالفهم عند تعلق النظر به ولهذا لم يحمل الآية عليه أحد من أئمة التفسير في القرن الأول والثاني بل أجمعوا على خلافه وكون النظر الموصول بإلى سيما المسند إلى الوجه بمعنى الانتظار مما لم يثبت عن الثقاة ولم يدل عليه الأبيات لجواز أن يحمل على تقليب الحدقة بتأويلات لا يخفى وأما اعتبار حذف المضاف فعدول عن الحقيقة أو المجاز المشهور إلى الحذف
(١١٦)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 111 112 113 114 115 116 117 118 119 120 121 ... » »»