شرح المقاصد في علم الكلام - التفتازاني - ج ٢ - الصفحة ١١٤
الآية على الأطماع أدل منها على الإقناط وسيجئ الكلام على القرائن وقد يقال أن في الآية وجهين آخرين من الاستدلال أحدهما أنه قال لن تراني ولم يقل لست بمرئي على ما هو مقتضى المقام لو امتنعت الرؤية وأخطأ السائلون والآخر أنه ليس معنى التجلي للجبل أنه ظهر عليه بعدما كان محجوبا عنه بل أنه خلق فيه الحياة والرؤية فرآه على ما حكى ابن فورك عن الأشعري وضعفهما ظاهر وقال وثالثهما تمسك المتقدمون من أهل السنة في إمكان الرؤية بدليل عقلي تقريره أنا نرى الجواهر والأعراض بحكم الضرورة كالأجسام وكالأضواء والألوان والأكوان وباتفاق الخصوم وإن زعم لبعض منهم في بعض الأعراض أنها أجسام وفي الطول الذي هو جواهر ممتدة أنه عرض ورد بأنه يدرك الطول بمجرد تألف عدة من الجواهر في سمت وإن لم يخطر بالبال شيء من الأعراض وقد يستدل على رؤية القبيلتين بأنا نميز بالبصر بين نوع ونوع من الأجسام كالشجر والحجر ونوع ونوع من الألوان كالسواد والبياض من غير أن يقوم شيء منها بآلة الإبصار وبالجملة لما صحت رؤيتهما وصحة الرؤية أمر يتحقق عند الوجود وينتفي عند العدم لزم أن يكون لها علة لامتناع الترجح بلا مرجح وأن تكون تلك العلة مشتركة بين الجوهر والعرض لما مر من امتناع تعليل الواحد بعلتين وهي إما الوجود وإما الحدوث إذ لا ثالث يصلح للعلية والحدوث أيضا غير صالح لأنه عبارة عن مسبوقية الوجود بالعدم وهو اعتباري محض أو عن الوجود بعد العدم ولا مدخل للعدم فتعين الوجود وهو مما يشترك فيه الواجب لما مر في بحث الوجود فلزم صحة رؤيته وهو المط واعترض عليه بوجوه يندفع أكثرها بما دل عليه كلام إمام الحرمين من أن المراد بالعلة ههنا ما يصلح متعلقا للرؤية لا المؤثر في الصحة على ما فهمه الأكثرون فالاعتراض الأول أن الصحة معناها الإمكان وهو أمر اعتباري لا يفتقر إلى علة موجودة بل يكفيه الحدوث الذي هو أيضا اعتباري ووجه اندفاعه أن ما لا تحقق له في الأعيان لا يصلح متعلقا للرؤية بالضرورة الثاني أنه لا حصر للمشترك بينهما في الحدوث والوجود فإن الإمكان أيضا مشترك فلم لا يجوز أن يكون هو العلة ووجه اندفاعه أن الإمكان اعتباري لا تحقق له في الخارج فلا يمكن تعلق الرؤية به وكيف والمعدوم متصف بالإمكان فيلزم أن يصح رؤيته وهو باطل بالضرورة الثالث أن صحة رؤية الجوهر لا تماثل صحة رؤية العرض إذ لا يسد أحدهما مسد الآخر فلم لا يجوز أن يعلل كل منهما بعلة على الانفراد ولو سلم تماثلهما فالواحد النوعي قد يعلل بعلتين مختلفتين كالحرارة بالشمس والنار فلا يلزم
(١١٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 109 110 111 112 113 114 115 116 117 118 119 ... » »»