(١) الحديث الموضوع: هو المختلق المجعول، ويعرف إما بإقرار الواضع نفسه واعترافه، أو بما هو شبيه بالإقرار، وإما بقرينة - كركاكة الألفاظ مثلا - ما لم يكن النقل بالمعنى، أو بمخالفته لدلالة الكتاب العزيز، أو السنة المتواترة، أو ذليل العقل، أو إجماع أهل الحق وهم شيعة أهل البيت (عليه السلام)، أو أن يكون الإخبار فيه عن أمر جسيم تتوفر الدواعي على نقله بمحضر الجمع، ثم لا ينقله غير واحد، كما في هذا الحديث المروي عن ابن عمرو فقط، وإما بالإفراط بالوعيد الشديد على الأمر الصفير، أو الوعد العظيم على الفعل الحقير، ومنها كون الراوي عن عبد الله بن عمرو بن العاص، الذي كان كأبيه في بغض الوصي ونصرة الدعي، وكان ممن استماله معاوية فقدم معه إلى الكوفة، والمعروف أن معاوية كان على سنة عثمان في وضوئه البدعي الذي ما نزل الله به من سلطان.
إلى غير ذلك من الأمور الأخرى المذكورة في كتب الدراية في مجال معرفة الموضوعات.
ولا بأس هنا بإلقاء نظرة سريعة على سند الحديث.
إن سند الحديث في صحيح مسلم هو هذا: حدثني زهير بن حرب، حدثنا جرير، ح.
وحدثنا إسحاق، أخبرنا جرير، عن منصور، عن هلال بن يساف، عن أبي يحيى، عن عبد الله بن عمرو.
فهذا السند له شعبتان، إحداهما ابتدأت بزهير بن حرب، والأخرى بإسحاق وكلاهما من مشايخ مسلم صاحب الصحيح.
أما زهير بن حرب بن شداد، فهو أبو خيثمة الحرشي ولد سنة ١٦٠ ه ومات سنة ٢٣٤ ه، في خلافة المتوكل، وثقه العامة كثيرا وعدوه من نظرا أحمد بن حنبل وابن معين، ولم يضعفه أحد منهم.
أنظر: سير أعلام النبلاء ١١ / ٤٨٩ رقم ١٣٠، وتهذيب التهذيب ٣ / ١٩٦ رقم ٦٣٧، ومع هذا يمكن الخدش فيه، إذ اعترف - بجهل - على نفسه بأنه صار مرتدا عن الإسلام لما أجاب المأمون العباسي بما يريد حين امتحنه بمسألة خلق القرآن! كما نص على ذلك ابن عساكر الدمشقي في تبيين كذب المفتري: ٣٥٢ - ٣٥٣.
مع أنه لم يرتد عن الإسلام بهذا، ولكن لجهله بالمسألة أولا، وعدم معرفته حكم التقية على ما خالف الاعتقاد ظاهرا عند الاكراه ثانيا، جعل قوله ملزما للردة، ومن يك هذا علمه، فالوثاقة - على تقدير ثبوتها - غير كافية في قبول مروياته مطلقا من غير فحص، إذ قد يستغل في ترويج الباطل خصوصا وأنه عاش في العصر العباسي الأول وامتد به العمر إلى زمان المتوكل الذي كان من أشد بني العباس حقدا على أهل البيت (عليه السلام)، ونصرة للفكر السلفي الذي يتبناه زهير بن حرب ونظراؤه من أهل الحديث.
وأما إسحاق، فهو ابن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المعروف بابن راهويه المروزي.
ولد سنة ١٦١ - أو ١٦٦، ومات سنة ٢٣٧ - أو ٢٣٨ ه وثقه رجال العامة كثيرا ولم نجد في كتبهم من ضعفه، لكنه اختلف عليه في حديث الجمع بين الظهرين في الصلاة، ففي التهذيب لابن حجر: أنه روى حديث أنس، أنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان في سفر فزالت الشمس صلى الظهر والعصر ثم ارتحل بينما رواه ابن راهويه نفسه في صحيح مسلم - من طريق آخر - وفيه إذا كان في سفر وأراد الجمع آخر الظهر حتى يدخل أول وقت العصر ثم يجمع بينهما. تهذيب التهذيب ١ / ١٩٠ - ١٩٢ رقم ٤٠٨، والاختلاف بينهما ظاهر مع أن راويهما واحد وهو ابن راهويه، وهذا وإن كان غير قادح فيه إلا أنه يعني أنه ليس كل ما رواه الثقة يرى صحته، لا سيما في صورة المعارضة أو الاختلاف، وقد يكون حديث زيل للأعقاب من هذا القبيل عند ابن راهويه.
وأما جرير، فهو ابن عبد الحميد بن يزير القاضي أبو عبد الله الضبي، نزيل الري، ولد سنة ١٠٧ ه - أو ١١٠ ه ومات سنة ١٨٨ ه، وثقوه كثيرا مع هذا لم يكن فطنا، واتهمه سليمان الشاذكوني بالكذب.
قال الشاذكوني: قدمت على جرير، فأعجب بحفظي، وكان لي مكرما، قال: قدم يحيى ابن معين والبغداديون الذين معه.. فرأوا موضعي منه، فقال له بعضهم: إن هذا إنما بعثه يحيى القطان، وعبد الرحمن ليفسد حديثك عليك، ويتبع عليك الأحاديث!!
إلى أن جرى الكلام بينهما عن حديث طلاق الأخرس الذي كان يحدث به جرير تارة عن مغيرة، وأخرى: عن سفيان، عن مغيرة، وثالثة: عن ابن المبارك، عن سفيان، عن مغيرة!!
و كان الحديث موضوعا.
فقال له الشاذكوني: حديث طلاق الأخرس ممن سمعته؟
قال: حدثنيه رجل من خراسان، عن ابن المبارك.
قلت: قد رويته، مرة: عن مغيرة، ومرة: عن سفيان، عن مغيرة، ومرة: عن رجل، عن ابن المبارك، عن سفيان، عن مغيرة. ولست أراك تقف على شئ! فمن الرجل؟!
قال: رجل من أصحاب الحديث جاءنا.
قال: فوثبوا بي، وقالوا: ألم نقل لك: إنما جاء ليفسد عليك حديثك؟
قال: فوثب بي البغداديون، وتعصب لي قوم من أهل الري، حتى كان بينهم شر شديد!!
أنظر: سير أعلام النبلاء ٩ / ٩ رقم ٣.
ولهذا قال عنه ابن حجر في التهذيب ٣ / ١٦٦ - ١١٧ رقم ٦٥: قلت: إن صحت حكاية الشاذكوني، فجرير كان يدلس. وقال أحمد بن حنبل: لم يكن بالذكي، اختلط عليه حديث أشعث وعاصم الأحول، حتى قدم عليه بهز، فعرفه.
وأما بقية رجال أسند، فهم:
منصور: و هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي الكوفي، كان من العباد الأجلاء، ثبت، ثقة، وفيه تشيع قليل على ما قاله ابن حجر في التهذيب ١٠ / ٢٧٧ رقم ٥٤٧ مات سنة ١٣٢ ه.
وهلال بن يساف أو أساف، كوفي تابعي ثقة كما في تهذيب التهذيب ١١ / ٧٦ رقم ١٤٤.
وصحيح مسلم بشرح النووي ٣ / ١٣٠.
وأبو يحيى: محدث جليل ثقة، قرض عليه أحد كلاب الأمويينسبالوصي (عليه السلام)، فأبى، فقطع عرقوبه - رحمة الله - لتشيعه.
ولهذا قال عنه الجوز جاني الناصبي: زائغ جائر عن الطريق يعني: طريق معاوية. قال ابن حجر: والجوزجاني مشهور بالنصب والانحراف، فلا يقدح فيه قوله. تهذيب التهذيب ١٠ / 143 رقم 301.
وعبد الله بن عمرو بن العاص: وهو رابع أربعة اشتهروا بأحاديث غسل الرجلين - كما يلحظه كل متتبع لكتب الحديث - أولهم أم المؤمنين، وآخر هم خالهم!!!
ومن هنا يعلم أن في سند الحديث من حكم على نفسه بالارتداد جهلا، ومن لا يطمأن لحديثه لكذبه وتدليسه، ومن سار على خط السلطة وعرف بانحرافه على الغسل، بل حتى مع فرض صحة الحديث ودلالته على غسل الرجلين، فإنه يلزم من يترك الأخبار الصحيحة لأجل القياس تركه كما سنبينه في ص 454 الهامش رقم 1، فلاحظ.