مجلة تراثنا - مؤسسة آل البيت - ج ١٣ - الصفحة ٢٢٢
وما ذاك إلا لأن حكم المسموعات حكم المبصرات والممسوسات، وغيرها من سائر المحسوسات، فكما أن الأعين فارقة بين المناظر العثاث والملاح، والأوجه القباح والصباح، والأنوف فاصلة بين الأعطار الفوائح، وبين مستكرهات الروائح، والأفواه مميزة بين طعوم المآكل والمشارب وبين المستبشعات منها والأطائب، والأيدي مفرزة لما استلانت مما استخشنت، ولما استخفت مما استرزنت (34)، كذلك الآذان تعزل مستقيمات الألحان من عوجها، وتعرف مقبول الكلام من ممجوجها، والألسن تنبسط إلى ما أشبه من الكلام مجاج الغمام (35)، وتنقبض عما يشاكل منه أجاج (36) الجمام (37)، وهذه طريقة عامية يسمعها ويبصرها ويسلمها ولا ينكرها من يرى به شئ من طرف، أو يرامق (38) بأدنى عرف.
وأما الطريقة الخاصية التي تضمحل معها الشبه، ويسكت عندها المنطبق المفوه، فما عنى بتدوينه العلماء، ودأب في تضييفه العظماء، في ألفاظ العربية وكلمها، من بيان خصائصها ونوادر حكمها، مما يتعلق بذاوتها، ويتصل بصفاتها، من العلمين الشريفين، والعلمين المنيفين، وهما علم الأبنية وعلم الإعراب، المشتملان على فنون من الأبواب، وناهيك بكتاب سيبويه (39) الذي

(34) رزنت الشئ أرزنه رزنا، إذا رفعته لتنظر ما ثقله من خفته، وشئ رزين أي ثقيل " الصحاح - رزن - 5: 3123 ".
(35) مجاج الغمام: مطره. أنظر " لسان العرب - مجج - 2: 362 ".
(36) ماء أجاج أي ملح، وقيل: مر، وقيل: شديد المرارة، وقيل: الأجاج: الشديد الحرارة. " لسان العرب - أجج - 2: 207 ".
(37) الجمة: المكان الذي يجتمع فيه ماؤه، والجمع الجمام. " الصحاح - جمم - 5: 1890 ".
(38) رمقه بعينه رمقا: أطال النظر إليه " مجمع البحرين - رمق - 5: 173 ".
(39) هو عمرو بن عثمان بن قنبر، مولى بني الحارث، يكنى أبا بشر وأبا الحسن، الملقب ب‍ " سيبويه " ومعناه بالفارسية: رائحة التفاح، ولد في إحدى قرى شيراز، وقدم البصرة فلزم الخليل ابن أحمد ففاقه، وصنف كتابه المعروف ب‍ " كتاب سيبويه " في النحو، لم يصنع قبله ولا بعده مثله، توفي سنة 180 ه‍، وفي مكان وفاته والسنة التي مات بها خلاف.
أنظر " إنباه الرواة 2: 346 / 515، وفيات الأعيان 3: 463 / 504، تأريخ بغداد
(٢٢٢)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 217 218 219 220 221 222 223 224 225 226 227 ... » »»
الفهرست