مجلة تراثنا - مؤسسة آل البيت - ج ١٣ - الصفحة ٢١٩
صماخ قريته (13)، وهكذا جحاجحة العرب، لا تتخطاهم في رشق أصابه، ولا تسقط لنازعهم في قوس نشابه (14).
وسألني الإجابة عن تلك السؤالات بنظم رسالة من أبلغ الرسالات، تقع من السائل موقع الفرات (15) من الحران (16)، وتنزل منه منزلة السداد من الحيران، وكرر الطلب وردد، وألح فيه وشدد، وضيق علي الأمر وعوصه، وقال: أنت الذي عينه الله وشخصه، حتى لم أجد بدا من إجابته إلى ما أراد، وإسعافه بما ابدأ فيه وأعاد، وكان أمثل الأمرين أن الجم نفسي وأحجرها، وأن ألقمها حجرها، ولا أفغر بمنطق فما، ولا أبل بجواب قلما، وليس بين فكي لسان دافع، وليس في ماضغي ضرس قاطع، ولا بين جنبي نفس حركة نشيطة، ولكن حردة (17) مستشيطة، لما أنا مفجوع به من مفارقة كل أخ كان يسمع مني الكلمة الفذة فيضعها على رأسه، ويعض عليها بأضراسه، ويتقبلها بروحه، ويلصقها بكبده، ويجعلها طوقا في أعلى مقلده، ويسكنها صميم فؤاده، ويخطها على بياض ناضره بسواده، لولا خيفة أن تسول له نفسه أنني أقللت الاكتراث بمراسلته، وأخللت الاحتفال بمسألته، وأن يقول بعض السمعة - ممن يحسب لساني لسان الشمعة -:
أقسم بالله قسما ما وجد في ديسم (18) دسما، فمن ثم ضرب عنه صفحا، وطوى

(١٣) أفرغ: صب، وصماخ ككتاب: الأذن، وكعراب: الماء، وقرية: الحوصلة. والمراد بها ما اشتهر به من البلاغة حتى صارت له كالعلم، كما صار اسم حاتم للكرم، والتفسير عليها دون القرية واحدة القرى، ودون القربة سقاء الماء واللبن، أي وإن صب أذن حافظته، أو استنزف ماء قريحته، كناية عن إجهاد نفسه في البيان، وخنق فرسه في الميدان، فهذه الأسئلة إن قرعت له سمعا يضيق بها ذرعا، ويبقى خابطا في الشك والجدل، لا حول له بها ولا حيل. " ه‍ م ".
(١٤) لا تسقط أي لا تخطئ، ونزع القوس مدها، ونشابه أي نبله، أي هذه السؤالات كما يقصر عنها المذكورون من أئمة الأدب، فإنها تصيب بلاغة سادات العرب، ولا تخطئ نبل متقوسهم في إرب.
" ه‍ م ".
(١٥) الفرات: أشد الماء عذوبة " لسان العرب - فرات - ٢: ٦٥ ".
(١٦) الحران: العطشان " مجمع البحرين - حرر - ٣: ٢٦٤ ".
(١٧) يقال: حرد الرجل حرودا إذا تحول عن قومه وانفرد. أنظر " النهاية - حرد - 1: 362 ".
(18) الديسم: بالفتح ولد الدب، قال الجوهري: قلت لأبي الغوث: يقال إنه ولد الذئب من الكلبة، فقال: ما هو إلا ولد الدب، وقال في المحكم: إنه ولد الثعلب. وقال الجاحظ: إنه ولد الذئب من الكلبة، وهو أغير اللون وغبرته ممتزجه بسواد، وحكمه تحريم الأكل على كل تقدير. " الحيوان 1: 343 ".
(٢١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 214 215 216 217 218 219 220 221 222 223 224 ... » »»
الفهرست