واستطاع أن يكتب ويؤلف فيها، وأخفي ذلك عن قومه توصلا للفرض الذي ظهر به، وهو ادعاء المسيحية مقرونة بمعجزة كتابه في لغة غير لغة أمته.
هذا من حيث تجويز تعلمه اللغة، وأما من حيث محتويات ذلك الكتاب المدعي إعجازه، فلم نجد فيما وقفنا عليه من بعض فصوله أو آياته (؟) ما يقرن بمنشآت الشادي معنى ومبني، ومن شرط المعجز المتحدي به التفوق على أبلغ كلام من نوعه، فلم يكن إذن هذا الكتاب مما يعجز تحديه المبتدئ فضلا عن المنتهي، كما أن دعوى الإيحاء به إليه مع جهله اللغة العربية لا يدل على مراده لتجويز تعلمه لها عن أستاذ أو درسه لها على نفسه، فقد بطلت إذن هذه الدعوى.
إن محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) عربي من صميم العرب، تحدى بالقرآن المنزل عليه من لدن حكيم عليم بلغاء عصره والعصر حافل برجال البلاغة، والتفاوت بينهم سواء في منظومهم أو منشورهم لا يبلغ درجة بعد المسافة في تساويهم في فضيلة السبق والمجاراة.
البلاغة في النظم والنثر هي جل ما برع العرب فيه في جزيرتهم، وبلغ ذروته في صدر الرسالة. وأما ما عبر عنه من معان فلا تكاد تخرج عن أوصاف بيئتهم، وهي بيئة الرسول الأعظم وما أوتوه من بسائط العيش فيها ومفاخرات قبلية وغزوات بين القبائل غير منقطعة، وما إلى ذلك مما كانوا يصورونه في شعرهم الذي لم يكن يخلو من حكمة عالية، ومثل سام كلاهما مستمد من وحي الفطرة والذكاء العربي الرائع. وأما ما وراء ذلك من علوم فلم يكونوا فيها لا في العير ولا في النفير، اللهم إلا معارف بسيطة لها أشد مساس بحياتهم.
ظهر محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في مثل هذا المحيط وفي مثل هذه الأمة المتفرقة مؤيدا بمعجزة القرآن، وفيه من المعارف وأصول العلوم والتشريع والحكم العالية وكل ما لم يبلغه العلم ولم تصل إليه همة العلماء والحكماء، وما زال ولن يزال مادة لا ينضب معينها لمعارف لا تتناهى، وهو منزل بلسان العرب ولكن بأسلوب بهرهم وأعجزهم، وإن كان من جنس ما يعرفون من الكلام.