هذا حسين كالأسير المرتهن * بين أناس لأسقوا صوب المزن وحمل وكأن وجهه فلقة القمر، وقاتل فقتل على صغر سنه خمسة وثلاثين رجلا - ممن وجب عليهم عذاب الله -.
قال حميد بن مسلم - وكان كاتب الوقائع - كنت في عسكر ابن سعد، فكنت أنظر إلى الغلام وعليه قميص وإزار ونعلان، قد انقطع شسع إحداهما، ما أنسى أنه كان شسع اليسرى، فقال: عمرو بن سعد الأزدي: والله لأشدن عليه.
فقلت: سبحان الله! ما تريد بذلك؟ فالله لو ضربني ما بسطت له يدي، يكفيك هؤلاء الذين تراهم قد احتوشوه.
قال: والله لأفعلن، فشد عليه فما ولى حتى ضرب رأسه بالسيف فوقع الغلام لوجهه، وصاح: يا عماه.
قال: فأنقض عليه الحسين كالصقر، وتخلل الصفوف، وشد شدة الليث الحرب، فضرب عمرا بالسيف، فاتقاه بيده فأطنها من المرفق، فصاح، ثم تنحى عنه، فحملت خيل أهل الكوفة ليستنقذوه، فاستقبلته بصدورها، ووطأته بحوافرها، فمات، وانجلت الغبرة فإذا بالحسين قائم على رأس الغلام، وهو يفحص برجليه، والحسين يقول: " عز والله على عمك أن تدعوه فلا يجيبك، أويجيبك فلا يعينك، أويعينك فلا يغني عنك، بعدا لقوم قتلوك، الويل لقاتلك ". (1) في هذا الموقف الحسيني كما تبينه كلماته (عليه السلام) فقد اجتمع العقل والعاطفة مرة أخرى، فأفرزا للتاريخ معنى البسالة والحنان والتماسك العائلي في أخلاق الإمام الحسين (عليه السلام) وتأتيك مواقف أخرى من هذا التماسك العائلي في ظل الأخلاق والدين لا التعصب الجاهلي الذي لازال بعض العوائل يمارسونه دون النظر إلى مقتضى الأخلاق الدينية. ثم تأمل في عدل الحسين (عليه السلام) وهو في تلك الحالة العسيرة، فقد ضرب عمرو - قاتل القاسم - بضربة واحدة ثم تركه فلم يقتله حتى مات تحت حوافر خيل أصحابه. هكذا كان يسجل الحسين (عليه السلام) مواقفه الأخلاقية واحدا تلو آخر وتحيطه الآلام والمصائب الكبيرة.