أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يركب الفرس حتى تدور بكم دور الرحى، وتقلق بكم قلق المحور، عهد عهده إلي أبي عن جدي رسول الله (صلى الله عليه وآله) " فأجمعوا أمركم وشركاءكم ثم لا يكن أمركم عليكم غمة ثم اقضوا إلي ولا تنظرون إني توكلت على الله ربي وربكم ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم ".
ورفع يديه بالدعاء عليهم قائلا: " اللهم احبس عنهم قطر السماء، وابعث عليهم سنين كسني يوسف، وسلط عليهم غلام ثقيف، يسقيهم كأسا مصبرة، فإنهم كذبونا وخذلونا، وأنت ربنا عليك توكلت وإليك المصير " (1).
لقد انفجر الإمام بهذا الخطاب كما ينفجر البركان، وقد أبدى من صلابة العزم وقوة الإرادة ما لم يشاهد مثله.
وكان جواب المضلين أن تتابعت سهامهم على أصحاب الحسين كأنها المطر، حتى لم يبق أحد منهم إلا أصابه سهم منها، وبطلت بذلك حجة السلم التي حرص الإمام عليها، وكان على انتظار من أعدائه القيام بهذا العدوان الغادر، فلما بدأوه من جانبهم وجب عليه الدفاع عن النفس وجوبا لا شبهة فيه، والتفت الإمام إلى أصحابه فأذن لهم في الحرب قائلا: " قوموا يا كرام، فهذه - أي سهامهم - رسل القوم إليكم ".
ويلتفت أبو عبد الله الحسين في الساعات العسيرة من يوم عاشوراء إلى أصحابه الأبرار ودموع الحب جارية على خديه وهو يراهم كيف يناضلون مستميتين في وفائهم، فيقول لهم: " صبرا بني الكرام فما الموت إلا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائمة، فأيكم يكره أن ينتقل من سجن إلى قصر، وما هو لأعدائكم إلا كمن ينتقل من قصر إلى سجن وعذاب، ان أبي حدثني عن رسول الله 9 أن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والموت جسر هؤلاء إلى جنانهم وجسر هؤلاء إلى جحيمهم، ما كذبت ولا كذبت " (2).
وتقدمت طلائع الحق من أصحاب الإمام (عليه السلام) إلى ساحة الحرب وبدأت بذلك المعركة الرهيبة واحتدم القتال كأشد وأعنف ما يكون، ومن المؤكد انه لم تكن مثل تلك المعركة