E / في أجمل الصبر عند أصعب المصائب أي صبر كان صبر أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)؟!!
كيف استطاع أن يتحمل كوارث الطغاة والحفاة المتوحشين؟!
دون أي شك، إنه صبر تعجز عنه الكائنات، وتميد من هوله الجبال، وكان من أفجع وأقسى ما نكب به رزيته بولده عبد الله الرضيع، فقد كان كالبدر في بهائه، فأخذه وجعل يوسعه تقبيلا ويودعه الوداع الأخير، وقد رآه مغمى عليه لشدة العطش، وقد غارت عيناه وذبلت شفتاه، فحمله إلى القوم ليستدر عواطفهم لعلهم يسقوه جرعة من الماء، وعرضه عليهم وهو يطلل له بردائه من حرارة الشمس، وطلب منهم أن يسعفوه بقليل من الماء، فلم ترق قلوب أولئك الممسوخين، وانبرى الباغي اللئيم حرملة بن كاهل فسدد له سهما، وجعل يضحك ضحكة الدناة وهو يقول مفتخرا أمام اللئام من أصحابه: " خذ هذا فاسقه ".
واخترق السهم - يا لله - رقبة الطفل الرضيع وهو على يد والده الحسين (عليه السلام)، ولما أحس الطفل بحرارة السهم أخرج يديه من القماط، وجعل يرفرف على صدر أبيه كالطير المذبوح، وانحنى الطفل رافعا رأسه إلى السماء فمات على ذراع أبيه...
إنه منظر تتصدع من هوله القلوب، وتلجم الألسن.. ورفع الإمام يديه وكانتا مملوئتين من ذلك الدم الطاهر، فرمى به نحو السماء فلم تسقط منه قطرة واحدة إلى الأرض - حسبما يقول الإمام الباقر (عليه السلام) - وأخذ يناجي ربه قائلا: " هون ما نزل بي انه بعين الله تعالى.. اللهم لا يكون أهون عليك من فصيل، إلهي إن كنت حبست عنا النصر فاجعله لما هو خير منه، وانتقم لنا من الظالمين، واجعل ما حل بنا في العاجل ذخيرة في الآجل، اللهم:
أنت الشاهد على قوم قتلوا أشبه الناس برسولك محمد (صلى الله عليه وآله) ".
ونزل الإمام عن جواده، وحفر لطفله بجفن سيفه حفرة، ودفنه مرملا بدمائه الزكية، وقيل إنه وضعه مع القتلى من أهل بيته.
لك الله يا أبا عبد الله على هذه الكوارث التي لم يمتحن ببعضها أي نبي من أنبياء الله، ولم تجر على أي مصلح في الأرض (1).