المبحث الثامن: ان قيل: جاء في بعض الأحاديث المروية في باب البداء ان لله علمان: علم علمه ملائكته ورسله فذلك لا يجئ فيه البداء، وعلم مخزون عنده لم يطلع عليه أحدا من خلقه فذلك الذي يقع فيه البداء، وأنتم قد أجبتم عن الاخبار التي دلت على وقوع البداء فيما علمه الله تعالى بعض رسله بحمل العلم الأول على الأمور التبليغية، وما من شان النبي بيانه وارشاد الناس إليه، والاعلام به، وأيضا اختصاص مفاد ما دل على وقوع البداء فيما علمه الله تعالى رسله على موارد ظهر وجه الحكمة فيها على الخلق فصار مؤيدا للنبي، وموجبا لمزيد الايمان به.
إذا فكيف يوفق بين هذه الأخبار، والاخبار التي رواها الكليني رضوان الله تعالى عليه، الدالة على أن النبي والأئمة صلوات الله عليهم كانوا عالمين بما كان وما يكون وما هو كائن، وكيف يوجه هذا التقسيم وحصر علمهم فيما لا يجئ فيه البداء؟
أقول: أولا: يستفاد من قوله عليه السلام في هذه الأحاديث (فإنه يكون ولا يكذب نفسه ولا ملائكته ولا رسله) ان المراد من العلم المخزون عنده هو ما لم يطلع عليه أحدا بهذه الخصوصية أي لما لم يطلع عليه أحدا وقوع البداء فيه، لا يستلزم تكذيب الله وتكذيب ملائكته ورسله، دون ما علمه ملائكته ورسله، ومن المعلوم ان ما علمه أنبيائه انما يستلزم تكذيبهم لو كانوا مأمورين باخبار القوم به، واما لو لم يخبروا الناس به وعلمهم الله تعالى ليكون مخزونا عندهم لا يستلزم ذلك تكذيبهم، فان الملائكة والأنبياء بل المؤمنين الكاملين لا يكذبون الله ولا رسله إذا وقع البداء فيما أخبروا عنه، إذا ليس نفس التعليم مستلزما للتكذيب بل اخبارهم الناس بما علمهم الله تعالى ووقوع البداء فيه يجعلهم معرضا لتكذيب الجاحدين، والمنافقين، وضعفا النفوس والايمان، وعلى هذا لا يستفاد من الحديث ما يخالف ما يدل على سعة علم الأئمة عليهم السلام بل يدل على أن ما علمهم، ولم يأذن لهم بالاخبار عنه، لا يقع فيه البداء، كما يدل بالمنطوق على أن الله تعالى أو النبي أو الولي إذا أخبروا الناس عن امر لا يقع فيه البداء فالحديث يوضح محل البداء، وليس في مقام تعيين مقدار ما يتعلق علم النبي والامام به من المغيبات.
وثانيا: ما كان مخزونا عند الله تعالى يشمل ما كان مخزونا عند ملائكته ورسله والأئمة عليهم السلام باذنه ولم يأذن لهم ان يخبروا به أحدا من خلقه بل ما يقبل التقسيم هو ما عندهم دون ما هو عنده، لان هذا التقسيم ان كان بملاحظة خصوصية في المعلوم وامتياز بعضه عن بعض فلا يوجد خصوصية في العلم وتعدد علم الباري جل شانه، فان علمه يتعلق بكل ما يجوز ان يكون معلوما ومتعلقا للعلم على وزان واحد. فكما لا يجوز الإشارة إلى ذاته منحازا عن صفاته، لا يجوز الإشارة إلى صفات ذاته منحازا عن ذاته، ولا يجوز الإشارة إلى علمه بخصوصية تعلقه إلى المعلوم المعين ممتازا عن