ورابعا: إذا كانوا هم أعلم بأمور دنيا هم من رسول رب العالمين (صلى الله عليه وآله) فهم أعلم من الفقهاء بالطريق الأولى، فما معنى موقف الفقهاء في الاجتهاد في هذه الأمور والنظر في السنة بعد ما كان الناس أولى وأحق بدنياهم وأعلم حسب الفرض من الرسول (صلى الله عليه وآله)!
بل إذا كان موقف الناس هكذا قبال أوامر النبي (صلى الله عليه وآله) ونواهيه حتى في حياته وكان يجوز لهم ترك العمل بأوامره، وكان الأصل والمعتبر ما يرون هم بأنفسهم في أمورهم حسبما تقتضيه المصالح والظروف، فما قيمة اجتهاد الفقهاء في أمور الناس الدنيوية؟
وخامسا: أن مغزى هذا الرأي أنه لا اعتناء بسيرة النبي (صلى الله عليه وآله) وسنته في الأنظمة الدنيوية، بل الناس هم وما رأوا فيها من مصالحهم ومنافعهم، وإذا فليس فيها تشريع ولا يوجد حكم شرعي، فما معنى تغير الحكم؟
وسادسا: إذا اشترطتم أن يكون التغيير على أساس القواعد العامة الشرعية فليس معنى (أنتم أعلم بشؤون دنياكم) إلا الكر على ما فر، وقد ذكر أن مراده من هذه القواعد العامة، مثل لا ضرر ولا ضرار، ودرأ المفاسد مقدم على جلب المصالح، فإن أراد من القاعدة الثابتة - كما لابد أن يكون - أن درأ المفاسد التي نهى عنها الشرع مقدم على جلب المصالح التي أمر بها، فذلك وإن لم يكن قاعدة كلية عامة، لأن مفسدة ارتكاب بعض المحرمات ربما لا تكون أهم من مفسدة ترك بعض الواجبات ومصلحة فعلها، بل تكون هذه أهم من الأولى، ولكن القائل بها لا يريد بها إلا القاعدة الشرعية التي هي كالشارح والمفسر لأدلة سائر الأحكام ومعها لا تغيير أيضا في الحكم، لأن المعيار في المصلحة هو المصالح التي أمر الشارع بحفظها والمفاسد التي نص الشارع على وجوب درئها.
وسابعا: إن أريد من تغيير الأحكام تغييرها بظروفها وعللها والمصلحة للناس حسب ما أمره الشارع، مثل أكل الميتة الذي يباح عند الاضطرار، أو ارتكاب أي محذور آخر أخف إذا دار الأمر بين المحذورين، والأهم والمهم، أو ترك واجب لدفع الضرر، أو نحو ذلك، فهذا ليس من تغيير الحكم - كما أشرنا إليه - بشئ، بل هو انتفاء حكم خاص بانتفاء موضوعه، ووجود حكم آخر بوجود موضوعه، فأكل الميتة لغير المضطر