وقد ذكرنا سابقا: إن مراتب الرجال ومنازلهم على قدر روايتهم، وعليه فإن المحدث المتفقه الكثير الرواية، الضابط، الدقيق، العامل، الكامل، المستأنس بكلام الله ورسوله وأئمة الهدى (عليهم السلام) قليل جدا ونادر الوجود، وسبب فقدانه اندراس هذا العلم المبارك والالتفات إلى العلوم الدنيوية المزخرفة الموهومة.
وكثيرا ما نجد في مؤلفات العلماء الراشدين وكتب المحدثين شكوى شديدة من هجران هذا العلم الشريف وتركه، والالتفات إلى الأعراض الواهية التي شغلت أبناء الزمان بالرغم من كثرة العلماء، والسبب الرئيسي لهذا الهجران يعود إلى الميل إلى الدنيا والابتعاد عن العقبى والاختلاط بأهل الهوى والإعراض عن ذكر الله وكراهة ذكر المولى، ولكن ليعلموا أن كتابة الحديث وشرف التأليف في الأخبار فيه فائدة تقييد خواطر أولي الأبصار وما تنتجه وتثمره، وضبط الأفكار الأبكار للعلماء الأبرار، حتى لا تبقى مخفية مغيبة في خزائن الأسرار. فلولا هذه الكتب المؤلفة من المحدثين السابقين لضاع وأهمل هذا العلم من أوله إلى آخره «كم ترك الأول للآخر والفضل للمتقدم».
روى المسعودي في مروج الذهب قال: «وقد كان عبد العزيز (1) لا يجالس الناس ونزل المقبرة وكان لا يرى إلا وفي يده كتاب يقرؤه، فسئل عن ذلك فقال: لم أر واعظا أوعظ من القبر، ولا متعا أمتع من الكتاب، ولا شئ أسلم من الوحدة (2).
ونعم ما قيل:
لما علمت بأني لست أعجزهم * فوتا ولا هربا قد مت أحتجب