أحدا كما سلطتكم وألقت بمقاليدها إليكم، وهذه قبوركم خربة ومزابل ترمى فيها قاذورات الناس والبهائم، بينما كان العلويون والفاطميون مقهورين ومغلوبين، انزوت الدنيا عنهم، فلم تمكن منهم أحدا، فلا سلطان ولا حكم ولا اقتدار دنيوي، عاشوا فقراء وماتوا غرباء، وهذه قبورهم عامرة يقصدها الناس من أقاصي البلاد ويطوفون حولها ويزورونها ويتبركون بها وينذرون لها ويستشفعون بتربتها ويشعلون الشموع والقناديل عندها كل ليل، فما أعجب هذا الأمر وما أغربه؟!
فقال المستنصر: هذا أمر سماوي وتأييد إلهي لا يحصل باجتهادنا، ولو أمرنا الناس به ما قبلوا، ولو بضرب الرقاب وسفك الدماء.
والأعجب أن أحد علماء العامة روى هذه القصة وعلق عليها مؤيدا قول المستنصر فقال: «هذا لا يحصل بالقهر ولا يمكن بالإكرام».
الحاصل: إن أمر السلطنة وأمر النبوة متباينان متغايران، والمناط مدى الإتصال بساحة القدس الربوبي والتقرب إلى الحق تبارك وتعالى. وهما في فاطمة وأولاد فاطمة (عليها السلام) بمستوى الكمال، ومن آثاره توجه النفوس وإقبال القلوب على مراقدهم المطهرة ومشاهدهم المقدسة ومواليدهم المتبركة إلى يوم القيامة.
والعجيب أن هذا التعظيم والتكريم لا يفتر ولا يقل على مدى الدهور وكر العصور، بل يزداد يوما بعد يوم، وما سمعنا - قط - أن رجلا شد الرحال لزيارة أحد الخلفاء العباسيين أو أحد الأكاسرة أو القياصرة، وإذا كانت للسلاطين حرمة أيام حكمهم، فلما عندهم من أموال ودنيا دنية وزخارف فانية، وفي هذا دليل على أن الناس يتهافتون على السلطان في حياته طمعا في دنانيره ودراهمه ولا يهمهم شخصه، وهو دليل أيضا على بطلان دعوى الأحقية التي كانوا يدعونها اعتمادا على اتباع الناس لهم.