أهداها للكعبة، وقيل سابور. وكانت الأوائل من ملوك الفرس تحجها إلى ساسان أو سابور.
الثانية: قال السهيلي أيضا: دل عبد المطلب على زمزم بعلامات ثلاث: بنقرة الغراب الأعصم، وأنها بين الفرث والدم، وعند قرية النمل، ولم يخص هذه العلامات الثلاث إلا بحكمة إلهية وفائدة مشاكلة لطيفة في علم التعبير والتوسم الصادق لمعنى زمزم ومائها. أما الفرث والدم: فإن ماءها طعام طعم وشفاء سقم. وهي لما شربت له، وقد تقوت من مائها أبو ذر - رضي الله تعالى عنه - ثلاثين ما بين ليلة ويوم فسمن حتى تكسرت عكن بطنه، فهي إذا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في اللبن: " إذا شرب أحدكم اللبن فليقل: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه فإنه ليس شئ يسد مسد الطعام والشراب إلا اللبن " وقد قال الله تعالى: " (من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين) فظهرت هذه السقيا المباركة بين الفرث والدم، وكانت تلك من دلائلها المشاكلة لمعناها.
وأما الغراب: فهو في التأويل فاسق، وهو أسود، فذلت تقرته عند الكعبة على نقرة الأسود الحبشي بمعوله في أساس الكعبة بهدمها آخر الزمان، فكأن نقرة الغراب في ذلك المكان تؤذن بما يفعله الفاسق في آخر الزمان بقبلة الرحمن وسقيا أهل الإيمان، وذلك عندما يرفع القرآن. وتحيا عبادة الأوثان.
وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ليخربن الكعبة ذو السويقتين من الحبشة " (1) وفيه أيضا من صفته أنه أفحج، وهذا ينظر إلى كون الغراب أعصم، إذ الفحج: تباعد في الرجلين، كما أن العصم اختلاف فيهما، والاختلاف تباعد، وقد عرف بذي السويقتين، كما نعت الغراب بصفة في ساقيه. فتأمله. وهذا من خفي علم التعبير، لأنها كانت رؤيا.
وأما قرية النمل ففيها من المشاكلة أيضا والمناسبة: أن زمزم عين مكة التي يردها الحجيج والعمار من كل جانب، فيحملون لها البر والشعير وغير ذلك، وهي لا تزرع ولا تحرث، كما قال سبحانه وتعالى خبرا عن إبراهيم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام: (ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع) الآية. وقرية النمل كذلك، لأن النمل لا تحرث ولا تزرع وتجلب الحبوب إلى قريتها من كل جانب، ومكة كذلك، كما قال تعالى:
(وضرب الله مثلا قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان) مع أن لفظ قرية النمل مأخوذ من قريت الماء في الحوض إذا جمعته، والرؤيا تعبر على اللفظ تارة وعلى المعنى أخرى، فقد اجتمع اللفظ والمعنى في هذا التأويل. والله تعالى أعلم.