لقد تسببت أخطاء الحكم في عهد الخليفة عثمان بن عفان في خيبة آمال فئات واسعة من المسلمين وغضبها. كما تسببت - إلى جانب ذلك - في انبعاث كثير من القيم والأخلاق والمطامح الجاهلية التي نشطت للعمل من خلال ممثليها ورموزها في قمة السلطة في مجالات السياسة والاقتصاد والاجتماع. وقد أدى انبعاث هذه القيم الجاهلية إلى تعارض في المصالح بين ممثلي هذه القيم وبين أكثرية المسلمين الذين كانت تغتذي نفوسهم بالآمال التي تولدها قيم الإسلام في العدالة الخالصة والمساواة... هذا التعارض المأساوي الذي ما فتئت تغذيه أخطاء الحكم وسياسات الرموز الجاهلية العائدة، فتعمقه، وتزيده حدة، وتدفع به إلى مزيد من الاتساع والانتشار.
وقد تراكم كل ذلك على مدى سنين، واتسع إلى أن شمل حواضر الدولة كلها. وأدى في النهاية إلى عاقبته الوخيمة وثمرته المرة: ثورة شارك فيها الأغنياء والفقراء، الساخطون بلا حقد والحاقدون من علية القوم. وأدت الثورة إلى مقتل الخليفة عثمان، وإلى دخول المسلمين في منعطف من تاريخهم جديد طلبوا من علي بن أبي طالب أن يقودهم فيه، ولكنه رفض طلبهم، لأنه أدرك - وهو الراعي للتاريخ وأفاعيله وآلية حركته - أن حجم الحاجات التي يفتقر إليها الناس والآمال التي تعمر قلوبهم أكبر بكثير من حجم الإمكانات التي توفرها مؤسسات الدولة، وأن حجم المعوقات التي يمثلها رموز العهد الماضي وقواه التي شلتها الثورة فاضطرت إلى الانكماش... حجم هذه المعوقات كبير وخطير، لأنها مستشرية في جميع مراكز السلطة، وقد قال لهم معلنا رفضه:
دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول 1. وإن الآفاق قد أغامت 2، والمحجة قد تنكرت 3. واعلموا أني إن أجبتكم