فالذي خلق السماوات العظام وما فيها من الأنوار والأجرام، والأرض الغبراء الكثيفة، وما فيها من ضروريات الخلق ومنافعهم، لا بد أن يبعث الخلق المكلفين، فيجازيهم بأعمالهم، فمن أحسن فله الحسنى، ومن أساء فلا يلومن إلا نفسه. ولهذا ذكر بعد هذا قيام الساعة، ثم الجزاء، فقال: * (فإذا جاءت الطامة) *، إلى: * (هي المأوى) *. * (فإذا جاءت الطامة الكبرى يوم يتذكر الإنسان ما سعى وبرزت الجحيم لمن يرى فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى) * أي: إذا جاءت القيامة الكبرى، والشدة العظمى، التي يهون عندها كل شدة، فحينئذ يذهل الوالد عن ولده، والصاحب عن صاحبه، وكل محب عن حبيبه. و * (يتذكر الإنسان ما سعى) * في الدنيا، من خير وشر، فيتمنى زيادة مثقال ذرة في حسناته، ويغم ويحزن لزيادة مثقال ذرة في سيئاته. ويعلم إذا ذاك أن مادة ربحه وخسرانه ما سعاه في الدنيا، وينقطع كل سبب وصلة كانت له في الدنيا، سوى الأعمال. * (وبرزت الجحيم لمن يرى) *، أي: جعلت في البراز، ظاهرة لكل أحد قد هيئت لأهلها، واستعدت لأخذهم، منتظرة لأمر ربها. * (فأما من طغى) *، أي: جاوز الحد، بأن تجرأ على المعاصي الكبار، ثم يقتصر على ما حده الله. * (وآثر الحياة الدنيا) * على الآخرة، فصار سعيه لها، ووقته مستغرقا في حظوظها وشهواتها، ونسي الأخرة والعمل لها. * (فإن الجحيم في المأوى) * له، أي: المقر والمسكن لمن هذه حاله. * (وأما من خاف مقام ربه) * أي: خاف القيام عليه، ومجازاته بالعدل فأثر هذا الخوف في قلبه، * (ونهى النفس عن الهوى) * الذي يصدها عن طاعة الله، وصار هواه تبعا لما جاء به الرسول، وجاهد الهوى والشهوة، الصادين عن الخير. * (فإن الجنة) * المشتملة على كل خير وسرور ونعيم * (هي المأوى) * لمن هذا وصفه. * (يسألونك عن الساعة أيان مرساها فيم أنت من ذكراها إلى ربك منتهاها إنما أنت منذر من يخشاها كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها) * أي: يسألك المتعنتون المكذبون بالبعث * (عن الساعة) * متى وقوعها * (أيان مرساها) *، فأجابهم الله بقوله: * (فيم أنت من ذكراها) *، أي: ما الفائدة لك ولهم في ذكرها، ومعرفة وقت مجيئها؟ فليس تحت ذلك نتيجة. ولهذا لما كان علم العباد للساعة، ليس لهم فيه مصلحة دينية ولا دنيوية، بل المصلحة في إخفائه عليهم، طوى علم ذلك عن جميع الخلق، واستأثر بعلمه فقال: * (إلى ربك منتهاها) *، أي: إليه ينتهي علمها، كما قال في الآية الأخرى: * (يسألونك عن الساعة أيان مرساها قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو) *. * (إنما أنت منذر من يخشاها) *، أي: إنما نذارتك، نفعها لمن يخشى مجيء الساعة، ويخاف الوقوف بين يدي الله، فهم الذين لا يهمهم إلا الاستعداد لها، والعمل لأجلها. وأما من لم يؤمن بها، فلا يبالي به، ولا بتعنته، لأنه تعنت مبني على التكذيب والعناد، وإذا وصل إلى هذه الحال، كانت الإجابة عنه عبثا، ينزه أحكم الحاكمين عنه. تم تفسير سورة النازعات بعون الله وتوفيقه. سورة عبس * (عبس وتولى أن جاءه الأعمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى أما من استغنى فأنت له تصدى وما عليك ألا يزكى وأما من جاءك يسعى وهو يخشى فأنت عنه تلهى) * سبب نزول هذه الآيات الكريمات، أنه جاء رجل من المؤمنين أعمى يسأل النبي صلى الله عليه وسلم ويتعلم منه. وجاء رجل من الأغنياء، وكان صلى الله عليه وسلم حريصا على هداية الخلق، فمال صلى الله عليه وسلم وأصغى إلى الغني، وصد عن الأعمى الفقير، رجاء لهداية ذلك الغني، وطمعا في تزكيته، فعاتبه الله بهذا العتاب اللطيف، فقال: * (عبس) *، أي: في وجهه * (وتولى) * في بدنه، لأجل مجيء الأعمى له. ثم ذكر الفائدة في الإقبال عليه، فقال: * (وما يدريك لعله) *، أي: الأعمى * (يزكي) *؟، أي: يتطهر عن الأخلاق الرذيلة، ويتصف بالأخلاق الجميلة؟ * (أو يذكر فتنفعه الذكرى) *؟ أي: يتذكر ما ينفعه، فينتفع بتلك الذكرى.
(٩١٠)