تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٩٠١
إليه، وبينها، ورغبه فيها، وأخبره بما له عند الوصول إليه. ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك، ورهبه عنها، وأخبره بما له، إذا سلكها، وابتلاه بذلك، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه، قائم بما حمله الله من حقوقه. وإلى كفور للنعم، أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية، فردها، وكفر بربه، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك. * (إنآ اعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا * إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا * عينا يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا * يوفون بالنذر ويخافون يوما كان شره مستطيرا * ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا * إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا * إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا قمطريرا * فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا * وجزاهم بما صبروا جنة وحريرا * متكئين فيها على الأرائك لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا * ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا * ويطاف عليهم بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا * قواريرا من فضة قدروها تقديرا * ويسقون فيها كأسا كان مزاجها زنجبيلا * عينا فيها تسمى سلسبيلا * ويطوف عليهم ولدان مخلدون إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤا منثورا * وإذا رأيت ثم رأيت نعيما وملكا كبيرا * عاليهم ثياب سندس خضر وإستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابا طهورا * إن ه ذا كان لكم جزاء وكان سعيكم مشكورا * إنا نحن نزلنا عليك القرآن تنزيلا * فاصبر لحكم ربك ولا تطع منهم آثما أو كفورا * واذكر اسم ربك بكرة وأصيلا * ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلا طويلا * إن ه ؤلاء يحبون العاجلة ويذرون ورآءهم يوما ثقيلا * نحن خلقناهم وشددنآ أسرهم وإذا شئنا بدلنآ أمثالهم تبديلا * إن ه ذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا * وما تشآءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما * يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما) * أي: إنا هيأنا، وأرصدنا لمن كفر بالله، وكذب رسله، وتجرأ على معاصيه. * (سلاسل) * في نار جهنم، كما قال تعالى: * (ثم في سلسلة ذرعها سبعون ذراعا فاسلكوه) *. * (وأغلالا) * تغل بها أيديهم إلى أعناقهم، ويوثقون بها. * (وسعيرا) *، أي: نارا تستعر بها أجسامهم، وتحرق بها أبدانهم، * (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) *. وهذا العذاب الدائم، مؤبد لهم، مخلدون فيه سرمدا. وأما * (الأبرار) * وهم: الذين برت قلوبهم، بما فيها من معرفة الله ومحبته، والأخلاق الجميلة، فبرت أعمالهم، واستعملوها بأعمال البر. فأخبر أنهم * (يشربون من كأس) *، أي: شراب لذيذ من خمر قد مزج بكافور، أي: خلط به، ليبرده، ويكسر حدته، وهذا الكافور في غاية اللذة، قد سلم من كل مكدر ومنغص موجود في كافور الدنيا، فإن الآفة الموجودة في الدنيا، تعدم من الأسماء التي ذكرها الله في الجنة. كما قال تعالى: * (في سدر مخضود وطلح منضود) *، * (وأزواج مطهرة) *، * (لهم دار السلام عند ربهم) *، * (وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين) *. * (عينا يشرب بها عباد الله) *، أي: ذلك الكأس اللذيذ، الذي يشربونه، لا يخافون نفاده، بل له مادة لا تنقطع، وهي عين دائمة الفيضان والجريان، يفجرها عباد الله تفجيرا، أنى شاءوا، وكيف أرادوا. فإن شاؤوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات، أو إلى الرياض النضرات، أو بين جوانب القصور، والمساكن المزخرفات، أو إلى أي جهة يرونها من الجهات المونقات. ثم ذكر جملة من أعمالهم، فقال: * (يوفون بالنذر) *، أي: بما ألزموا به أنفسهم من النذور والمعاهدات. وإذا كانوا يوفون بالنذر، الذي هو غير واجب في الأصل عليهم، إلا بإيجابهم على أنفسهم، كان فعلهم وقيامهم بالفروض الأصلية، من باب أولى وأحرى. * (ويخافون يوما كان شره مستطيرا) *، أي: قاسيا منتشرا. فخافوا أن ينالهم شره، فتركوا كل سبب موجب لذلك. * (8) * (ويطعمون لطعام على حبه) * أي: وهم في حال يحبون فيها المال والطعام، ولكنهم قدموا محبة الله على محبة نفوسهم، ويتحرون في إطعامهم، أولى الناس وأحوجهم * (مسكينا ويتيما وأسيرا) *. ويقصدون بإنفاقهم وإطعامهم، وجه الله تعالى، ويقولون بلسان الحال: * (إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا) *، أي: لا جزاء ماليا، ولا ثناء قوليا. * (إنا نخاف من ربنا يوما عبوسا) *، أي: شديد الجهمة والشر * (قمطريرا) *، أي: ضنكا ضيقا. * (فوقاهم الله شر ذلك اليوم) * فلا يحزنهم الفزع الأكبر، وتتلقاهم الملائكة، هذا يومكم الذي كنتم توعدون. * (ولقاهم) *، أي: أكرمهم وأعطاهم * (نضرة) * (في وجوههم) * (وسرورا) * في قلوبهم، فجمع لهم بين نعيم الظاهر والباطن. * (وجزاهم بما صبروا) * على طاعته، فعملوا ما أمكنهم منها، وعن معاصيه، فتركوها، وعلى أقداره المؤلمة، فلم يتسخطوها. * (جنة) * جامعة لكل نعيم، سالمة من كل مكدر ومنغص. * (وحريرا) * كما قال تعالى: * (ولباسهم فيها حرير) *. ولعل الله إنما خص الحرير، لأنه لباسهم الظاهر، الدال على حال صاحبه. * (متكئين فيها على الأرائك) * الاتكاء: التمكن من الجلوس، في حال الطمأنينة، والراحة، والرفاهية، والأرائك هي: السرر التي عليها اللباس المزين. * (لا يرون فيها) *، أي: في الجنة * (شمسا) * يضرهم حرها، * (ولا زمهريرا) *، أي: بردا شديدا، بل جميع أوقاتهم في ظل ظليل، لا حر ولا برد، بحيث تلتذ به الأجساد، ولا تتألم من حر ولا برد. * (ودانية عليهم ظلالها وذللت قطوفها تذليلا) *، أي: قربت ثمراتها من مريدها، تقريبا ينالها وهو قائم، أو قاعد، أو مضطجع. * (ويطاف عليهم) *، أي: يدور الولدان والخدم على أهل الجنة * (بآنية من فضة وأكواب كانت قواريرا * قوارير من فضة) *، أي: مادتها فضة،
(٩٠١)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 896 897 898 899 900 901 902 903 904 905 906 ... » »»