تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٥٥
من شيء ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير * ربنا لا تجعلنا فتنة للذين كفروا واغفر لنا ربنآ إنك أنت العزيز الحكيم * لقد كان لكم فيهم أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد * عسى الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم * لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأول ئك هم الظالمون) * ذكر كثير من المفسرين، رحمهم الله، أن سبب نزول هذه الآيات الكريمات في قصة حاطب بن أبي بلتعة، حين غزا النبي صلى الله عليه وسلم غزاة الفتح. فكتب حاطب إلى المشركين من أهل مكة، يخبرهم بمسير رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم، ليتخذ بذلك يدا عندهم، لا شكا ونفاقا، وأرسله مع امرأة. فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بشأنه، فأرسل إلى المرأة قبل وصولها وأخذ منها الكتاب. وعاتب حاطبا، فاعتذر بعذر، قبله النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه الآيات فيها النهي الشديد عن موالاة الكفار من المشركين وغيرهم، وإلقاء المودة إليهم، وأن ذلك مناف للإيمان، ومخالف لملة إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، ومناقض للعقل الذي يوجب الحذر كل الحذر من العدو، والذي لا يبقى من مجهوده في العداوة شيئا، وينتهز الفرصة في إيصال الضرر إلى عدوه، فقال تعالى: * (يا أيها الذين آمنوا) *، أي: اعملوا بمقتضى إيمانكم، من ولاية من قام بالإيمان، ومعاداة من عاداه، فإنه عدو لله، وعدو للمؤمنين. * (لا تتخذوا عدوي) * (عدو الله) * (وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة) *، أي: تسارعون في مودتهم، والسعي في أسبابها، فإن المودة إذا حصلت، تبعتها النصرة والموالاة، فخرج العبد من الإيمان، وصار من جملة أهل الكفران. وهذا المتخذ للكافر وليا، عادم المروءة أيضا، فإنه كيف يوالي أعدى أعدائه، الذي لا يريد له إلا الشر، ويخالف ربه ووليه، الذي يريد به الخير، ويأمره به، ويحثه عليه؟ ومما يدعو المؤمن أيضا إلى معاداة الكفار، أنهم قد كفروا بما جاء المؤمنين من الحق، ولا أعظم من هذه المخالفة والمشاقة، فإنهم قد كفروا بأصل دينكم، وزعموا أنكم ضلال، على غير هدى. والحال أنهم كفروا بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية، ومن رد الحق، فمحال أن يوجد له دليل أو حجة، تدل على صحة قوله، بل مجرد العلم بالحق، يدل على بطلان قول من رده وفساده. ومن عداوتهم البليغة أنهم * (يخرجون الرسول وإياكم) * أيها المؤمنون من دياركم، ويشردونكم من أوطانكم. ولا ذنب لكم في ذلك عندهم، إلا * (أن تؤمنوا بالله ربكم) * الذي يتعين على الخلق كلهم، القيام بعبوديته، لأنه رباهم، وأنعم عليهم، بالنعم الظاهرة والباطنة. فلما أعرضوا عن هذا الأمر، الذي هو أوجب الواجبات، وقمتم به، عادوكم، وأخرجوكم من أجله من دياركم. فأي دين، وأي مروءة وعقل، يبقى مع العبد إذا والى الكفار، الذين هذا وصفهم، في كل زمان أو مكان؟ ولا يمنعهم منه إلا خوف، أو مانع قوي. * (إن كنتم خرجتم جهادا في سبيلي وابتغاء مرضاتي) *، أي: إن كان خروجكم، مقصودكم به الجهاد في سبيل الله، لإعلاء كلمة الله، وابتغاء رضاه، فاعملوا بمقتضى هذا، من موالاة أولياء الله، ومعاداة أعدائه، فإن هذا من أعظم الجهاد في سبيله، ومن أعظم ما يتقرب به المتقربون إلى الله، ويتبغون به رضاه. * (تسرون إليهم بالمودة، وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم) *، أي: كيف تسرون المودة للكافرين، وتخفونها، مع علمكم أن الله عالم بما تخفون، وما تعلنون؟، فهو وإن خفي على المؤمنين، فلا يخفى على الله تعالى، وسيجازي العباد بما يعلمه منهم، من الخير والشر. * (ومن يفعله منكم) *، أي: موالاة الكافرين بعدما حذركم الله منها * (فقد ضل سواء السبيل) *، لأنه سلك مسلكا مخالفا للشرع وللعقل، والمروءة الإنسانية. ثم بين تعالى شدة عداوتهم، تهييجا للمؤمنين على عداوتهم، فقال: * (إن يثقفوكم) *، أي: يجدوكم، وتسنح لهم الفرصة في أذاكم. * (يكونوا لكم
(٨٥٥)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 850 851 852 853 854 855 856 857 858 859 860 ... » »»