الذي بيناه لكم، وذكرنا الطرق الموصلة إلى الجنة، والطرق الموصلة إلى النار، وأن ثواب الله بالأجر الجزيل، والثواب الجميل، من أعظم منته على عباده وفضله. * (والله ذو الفضل العظيم) *، الذي لا يحصي أحد ثناء عليه، بل هو كما أثنى على نفسه، وفوق ما يثني عليه أحد من خلقه. * (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأهآ إن ذلك على الله يسير * لكيلا تأسوا على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم والله لا يحب كل مختال فخور * الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل ومن يتول فإن الله هو الغني الحميد) * ويقول تعالى مخبرا عن عموم قضائه وقدره: * (ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم) *، وهذا شامل لعموم المصائب التي تصيب الخلق، من خير وشر، فكلها قد كتب في اللوح المحفوظ صغيرها وكبيرها. وهذا أمر عظيم لا تحيط به العقول، بل تذهل عنه أفئدة أولي الألباب، ولكنه على الله يسير. وأخبر الله عباده بذلك لأجل أن تتقرر هذه القاعدة عندهم، ويبنوا عليها ما أصابهم من الخير والشر. فلا يأسوا ويحزنوا على ما فاتهم، مما طمحت له أنفسهم، وتشوفوا إليه لعلمهم أن ذلك مكتوب في اللوح المحفوظ، لا بد من نفوذه ووقوعه، قلا سبيل إلى دفعه، ولا يفرحوا بما آتاهم الله، فرح بطر وأشر، لعلمهم أنهم ما أدركوه بحولهم وقوتهم، وإنما أدركوه بفضل الله ومنه، فيشتغلوا بشكر من أولى النعم، ودفع النقم، ولهذا قال: * (والله لا يحب كل مختال فخور) *، أي: متكبر فظ، معجب بنفسه، فخور بنعم الله، ينسبها إلى نفسه، وتطغيه وتلهيه كما قال تعالى: * (وإذا أذقناه رحمة منا قال إنما أوتيته على علم بل هي فتنة) *. * (الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل) *، أي: يجمعون بين الأمرين الذميمين، الذين كل منهما كاف في الشر: البخل وهو منع الحقوق الواجبة، ويأمرون الناس بذلك، فلم يكفهم بخلهم، حتى أمروا الناس بذلك، وحثوهم على هذا الخلق الذميم بقولهم وفعلهم، وهذا من إعراضهم عن طاعة ربهم وتوليهم عنها. * (ومن يتول) * عن طاعة الله، فلا يضر إلا نفسه، ولن يضر الله شيئا. * (فإن الله هو الغني الحميد) * الذي غناه من لوازم ذاته، الذي له ملك السماوات والأرض، وهو الذي أغنى عباده وأقناهم. الحميد الذي له كل اسم حسن، وصف كامل، وفعل جميل، يستحق أن يحمد عليه، وينثى ويعظم عليه. * (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب فمنهم مهتد وكثير منهم فاسقون ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون) * يقول تعالى: * (لقد أرسلنا رسلنا بالبينات) * وهي الأدلة والشواهد والعلامات الدالة على صدق ما جاءوا به وحقيته. * (وأنزلنا معهم الكتاب) * وهو اسم جنس يشمل سائر الكتب، التي أنزلها الله لهداية الخلق وإرشادهم، إلى ما ينفعهم في دينهم ودنياهم. * (والميزان) * وهو العدل في الأقوال والأفعال. والدين الذي جاءت به الرسل، كله عدل وقسط في الأوامر والنواهي وفي معاملات الخلق، وفي الجنايات والقصاص والحدود والمواريث، وغير ذلك. وذلك * (ليقوم الناس بالقسط) * قياما بدين الله، وتحصيلا لمصالحهم التي لا يمكن حصرها وعدها. وهذا دليل على أن الرسل متفقون في قاعدة الشرع، وهو القيام بالقسط، وإن اختلفت صور العدل، بحسب الأزمنة والأحوال. * (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) * من آلات الحرب، كالسلاح والدروع وغير ذلك. * (ومنافع للناس) * وهو: ما يشاهد من نفعة في أنواع الصناعات والحرف، والأواني، وآلات الحرث، حتى إنه قل أن يوجد شيء إلا وهو يحتاج إلى الحديد. * (وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب) *، أي: ليقيم تعالى سوق الامتحان بما أنزله من الكتاب والحديد، فيتبين من ينصره، وينصر رسله في حالة الغيب، التي ينفع فيها الإيمان قبل الشهادة، التي لا فائدة بوجود الإيمان فيها، لأنه حينئذ يكون ضروريا واضطراريا. * (إن الله لقوي عزيز) *، أي: لا يعجزه شيء، ولا يفوته هارب. ومن قوته وعزته أن أنزل الحديد، الذي مه الآلات القوية، ومن قوته وعزته أنه قادر على الانتصار من أعدائه، ولكنه يبتلي أولياءه بأعدائه، ليعلم من ينصره بالغيب. وقرن تعالى بهذا الموضع بين الكتاب والحديد، لأن بهذين الأمرين ينصر الله دينه، ويعلي كلمته: بالكتاب، الذي فيه الحجة والبرهان، والسيف الناصر بإذن الله، وكلاهما قيامه بالعدل والقسط، الذي يستدل به على حكمة الباري وكماله،
(٨٤٢)