تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٤٣
وكمال شريعته التي شرعها على ألسنة رسله. ولما ذكر نبوة الأنبياء عموما، ذكر من خواصهم النبيين الكريمين نوحا وإبراهيم اللذين جعل الله النبوة والكتاب في ذريتهما، فقال: * (ولقد أرسلنا نوحا وإبراهيم وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب) *، أي: الأنبياء المتقدمين والمتأخرين كلهم من ذرية نوح وإبراهيم عليهما السلام. وكذلك الكتب كلها، نزلت على ذرية هذين النبيين الكريمين. * (فمنهم) *، أي: ممن أرسلنا إليهم الرسل * (مهتد) * بدعوتهم، منقاد لأمرهم، ومسترشد بهداهم. * (وكثير منهم فاسقون) *، أي: خارجون عن طاعة الله، وطاعة رسله كما قال تعالى: * (وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين) *. * (ثم قفينا) *، أي: أتبعنا * (على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم) *، خص الله عيسى عليه السلام؛ لأن السياق مع النصارى، الذين يزعمون اتباع عيسى. * (وآتيناه الإنجيل) * الذي هو من كتب الله الفاضلة * (وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة) * كما قال تعالى: * (لتجدن أشد الناس عدواة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون) *. ولهذا كان النصارى، ألين من غيرهم قلوبا، حين كانوا على شريعة عيسى عليه السلام. * (ورهبانية ابتدعوها) *، والرهبانية: العبادة، فهم ابتدعوا من عند أنفسهم عبادة، ووظفوها على أنفسهم، والتزموا لوازم ما كتبها الله عليهم ولا فرضها. بل هم الذين التزموا بها من تلقاء أنفسهم، قصدهم بذلك رضا الله، ومع ذلك * (فما رعوها حق رعايتها) *، أي: ما قاموا بها، ولا أدوا حقوقها، فقصروا من وجهين: من جهة ابتداعهم، ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوه على أنفسهم. فهذه الحال هي الغالب من أحوالهم. ومنهم من هو مستقيم على أمر الله، ولهذا قال: * (فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم) *، أي: الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، مع إيمانهم بعيسى، كل أعطاه الله على حسب إيمانه * (وكثير منهم فاسقون) *، أي: مكذبون بمحمد، وخارجون عن الطاعة والطريق المستقيم. * (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم * لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله وأن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم) * وهذا الخطاب، يحتمل أنه خطاب لأهل الكتاب الذين آمنوا بموسى وعيسى عليهما السلام، يأمرهم أن يعملوا بمقتضى إيمانهم، بأن يتقوا الله فيتركوا معاصيه، ويؤمنوا برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، وأنهم إن فعلوا ذلك أعطاهم الله * (كفلين من رحمته) *، أي: نصيبين من الأجر. نصيب على إيمانهم بمحمد صلى الله عليه وسلم. ويحتمل أن يكون الأمر عاما يدخل فيه أهل الكتاب وغيرهم وهذا هو الظاهر، وأن الله أمرهم بالإيمان والتقوى الذي يدخل فيه جميع الدين، ظاهره وباطنه، وأصوله وفروعه، وأنهم إن امتثلوا هذا الأمر العظيم، أعطاهم * (كفلين من رحمته) * لا يعلم قدرهما ولا وصفهما إلا الله تعالى. أجر على الإيمان، وأجر على التقوى، وأجر على امتثال الأوامر، وأجر على اجتناب النواهي، أو أن التثنية المراد بها تكرار الإيتاء مرة بعد أخرى. * (ويجعل لكم نورا تمشون به) *، أي: يعطيكم علما وهدى، ونورا تمشون به في ظلمات الجهل، ويغفر لكم السيئات. * (والله ذو الفضل العظيم) * فلا يستغرب كثرة هذا الثواب على فضل ذي الفضل العظيم، الذي عم فضله أهل السماوات والأرض، فلا يخلو مخلوق من فضله طرفة عين، ولا أقل من ذلك. وقوله: * (لئلا يعلم أهل الكتاب أن لا يقدرون على شيء من فضل الله) *، أي: بينا لكم فضلنا وإحساننا لمن آمن إيمانا عاما، واتقى الله، وآمن برسوله، لأجل أن يكون عند أهل الكتاب علم، بأنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، أي: لا يحجرون على الله، بحسب أهوائهم وعقولهم الفاسدة، فيقولون: * (لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى) *، ويتمنون على الله الأماني الفاسدة. فأخبر الله تعالى المؤمنين برسوله محمد صلى الله عليه وسلم، المتقين لله أن لهم كفلين من رحمته، ونورا، ومغفرة، رغما عن أنوف أهل الكتاب. وليعلموا * (إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء) * ممن اقتضت حكمته تعالى أن يؤتيه من فضله * (والله ذو الفضل العظيم) * الذي لا يقادر قدره. تم تفسير سورة الحديد ولله الحمد والمنة سورة المجادلة * (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركمآ إن الله سميع بصير * الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإن الله لعفو غفور * والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير
(٨٤٣)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 838 839 840 841 842 843 844 845 846 847 848 ... » »»