تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨١٩
* (وهو بالأفق الأعلى) *، أي: أفق السماء الذي هو أعلى من الأرض، فهو من الأرواح العلوية، التي لا تنالها الشياطين ولا يتمكنون من الوصول إليها. * (ثم دنا) * جبريل من النبي صلى الله عليه وسلم، لإيصال الوحي إليه. * (فتدلى) * عليه من الأفق الأعلى * (فكأن) * في قربه منه * (قاب قوسين) *، أي: قدر قوسين، والقوس معروف، * (أو أدنى) *، أي: أقرب من القوسين، وهذا يدل على كمال مباشرته للرسول صلى الله عليه وسلم، بالرسالة، وأنه لا واسطة بينه وبين جبريل عليه السلام. * (فأوحى) * الله بواسطة جبريل عليه السلام * (إلى عبده ما أوحى) *، أي: الذي أوحاه إليه من الشرع العظيم، والنبأ المستقيم. * (ما كذب الفؤاد ما رأى) *، أي: اتفق فؤاد الرسل صلى الله عليه وسلم ورؤيته على الوحي الذي أوحاه الله إليه، وتواطأ عليه سمعه وبصره وقلبه، وهذا دليل على كمال الوحي الذي أوحاه الله إليه، وأنه تلقاه منه تلقيا لا شك فيه ولا شبهة ولا ريب، فلم يكذب فؤاده، ما رأى بصره، ولم يشك في ذلك. ويحتمل أن المراد بذلك ما رأى صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به، من آيات الله العظيمة، وأنه تيقنه حقا، بقلبه ورؤيته، وهذا هو الصحيح في تأويل الآية الكريمة. وقيل: إن المراد بذلك رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، لربه ليلة الإسراء، وتكليمه إياه، وهذا اختيار كثير من العلماء رحمهم الله، فأثبتوا بهذا، رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا. ولكن الصحيح القول الأول، وأن المراد به جبريل عليه السلام، كما يدل عليه السياق، وأن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل في صورته الأصلية، التي هو عليها مرتين: مرة في الأفق الأعلى، تحت السماء الدنيا كما تقدم، والمرة الثانية فوق السماء السابعة ليلة أسرى برسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا قال: * (ولقد رآه نزلة أخرى) *، أي: رأى محمد جبريل مرة أخرى، نازلا إليه. * (عند سدرة المنتهى) * وهي شجرة عظيمة جدا، فوق السماء السابعة، سميت سدرة المنتهى، لأنه ينتهي إليها ما يعرج من الأرض، وينزل إليها ما ينزل من الله، من الوحي وغيره. أو لانتهاء علم المخلوقات إليها، أي: لكونها فوق السماوات والأرض فهي المنتهى في علومها، أو لغير ذلك، والله أعلم. فرأى محمد صلى الله عليه وسلم جبريل في ذلك المكان، الذي هو محل الأرواح العلوية الزاكية الجميلة التي لا يقربها شيطان ولا غيره، من الأرواح الخبيثة. * (عندها) *، أي: عند تلك الشجرة * (جنة المأوى) *، أي: الجنة الجامعة لكل نعيم، بحيث كانت محلا تنتهي إليه الأماني، وترغب فيه الإرادات، وتأوي إليها الرغبات، وهذا دليل على أن الجنة في أعلى الأماكن، وفوق السماء السابعة. * (إذ يغشى السدرة ما يغشى) *، أي: يغشاها من أمر الله، شيء عظيم لا يعلم وصفه إلا الله عز وجل. * (ما زاغ البصر) *، أي: ما زاغ يمنة ولا يسرة، عن مقصوده * (وما طغى) *، أي: وما تجاوز البصر، وهذا كمال الأدب منه صلوات الله وسلامه عليه، أن قام مقاما، أقامه الله فيه، ولم يقصر عنه، ولا تجاوزه، ولا حاد عنه. وهذا أكمل ما يكون من الأدب العظيم، الذي فاق فيه الأولين والآخرين، فإن الإخلال يكون بأحد هذه الأمور: إما أن لا يقوم العبد بما أمر به، أو يقوم به على وجه التفريط، أو على وجه الإفراط، أو على وجه الحيدة يمينا وشمالا، وهذه الأمور كلها منتفية عنه صلى الله عليه وسلم. * (لقد رأى من آيات ربه الكبرى) * من الجنة والنار، وغير ذلك من الآيات التي رآها صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به. * (أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى أم للإنسان ما تمنى فلله الآخرة والأولى) * لما ذكر تعالى ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الهدى، ودين الحق، والأمر بعبادة الله، وتوحيده، ذكر بطلان ما عليه المشركون من عبادة من ليس له من أوصاف الكمال شيء، ولا تنفع ولا تضر، وإنما هي أسماء فارغة من المعنى، سماها المشركون، هم وآباؤهم الجهال الضلال، ابتدعوا لها من الأسماء الباطلة التي لا تستحقها، فخدعوا بها أنفسهم وغيرهم من الضلال. فالآلهة التي بهذه الحال، لا تستحق مثقال ذرة من العبادة، وهذه الأنداد التي سموها بهذه الأسماء، زعموا أنها مشتقة من أوصاف هي متصفة بها، فسموا (اللات) من (الإله) المستحق للعبادة، و (العزى) من (العزيز)، و (مناة) من (المنان) إلحادا في أسماء الله وتجريا على الشرك به، وهذه أسماء متجردة
(٨١٩)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 814 815 816 817 818 819 820 821 822 823 824 ... » »»