تيسير الكريم الرحمن في كلام المنان - عبد الرحمن بن ناصر السعدي - الصفحة ٨٢٤
مثله، البشر. فمن أعظم الآيات الدالة على صحة ما جاء به محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم أنه لما طلب منه المكذبون أن يريهم من خوارق العادات ما يدل على صحة ما جاء به وصدقه، أشار صلى الله عليه وسلم إلى القمر، فانشق بإذن الله، فلقتين، فلقة على جبل أبي قبيس، وفلقة على جبل قعيقعان. والمشركون وغيرهم يشاهدون هذه الآية العظيمة الكائنة في العالم العلوي، التي لا يقدر الخلق على التمويه بها والتخييل. فشاهدوا أمرا ما رأوا مثله، بل ولم يسمعوا أنه جرى لأحد من المرسلين قبله نظيره، فانبهروا لذلك، ولم يدخل الإيمان في قلوبهم، ولم يرد الله بهم خيرا، ففزعوا إلى بهتهم وطغيانهم، وقالوا: سحرنا محمد. ولكن علامة ذلك أنكم تسألون من ورد عليكم من السفر، فإنه إن قدر على سحركم، لم يقدر أن يسحر من ليس مشاهدا مثلكم، فسألوا كل من قدم، فأخبروهم بوقوع ذلك، فقالوا: * (سحر مستمر) *، سحرنا محمد، وسحر غيرنا. وهذا من البهت الذي لا يروج إلا على أسفه الخلق وأضلهم عن الهدى والعقل، وهذا ليس إنكارا منهم لهذه الآية وحدها، بل كل آية تأتيهم، فإنهم مستعدون لمقابلتها بالتكذيب والرد لها، ولهذا قال: * (وإن يروا آية يعرضوا) * فليس قصدهم اتباع الحق والهدى، وإنما مقصودهم اتباع الهوى، ولهذا قال: * (وكذبوا واتبعوا أهواءهم) *، كقوله تعالى: * (فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم) *. فإنه لو كان قصدهم اتباع الهدى، لآمنوا قطعا، واتبعوا محمدا صلى الله عليه وسلم، لأن الله أراهم على يديه من البينات والبراهين، والحجج القواطع، ما دل على جميع المطالب الإلهية، والمقاصد الشرعية. * (وكل أمر مستقر) *، أي: إلى الآن، لم يبلغ الأمر غايته ومنتهاه، وسيصير الأمر إلى آخره، فالمصدق يتقلب في جنات النعيم، ومغفرة الله ورضوانه، والمكذب يتقلب في سخط الله وعذابه، خالدا مخلدا أبدا. وقال تعالى مبينا أنهم ليس لهم قصد صحيح، واتباع للهدى: * (ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر) *، أي: زاجر يزجرهم عن غيهم وضلالهم، وذلك * (حكمة) * منه تعالى * (بالغة) *، أي: لتقوم حجته على العالمين، ولا يبقى لأحد على الله حجة بعد الرسل. * (فما تغني النذر) * لقوله تعالى: * (ولو جاءتهم كل آية لا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم) *. * (فتول عنهم يوم يدعو الداع إلى شيء نكر * خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر) * يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: قد بان أن المكذبين لا حيلة في هداهم، فلم يبق إلا الإعراض عنهم، فقال * (فتول عنهم) * وانتظر بهم يوما عظيما وهولا جسيما. وذلك * (يوم يدع الداع) * وهو إسرافيل عليه السلام * (إلى شيء نكر) *، أي: إلى أمر فظيع، تنكره الخليقة، فلم تر منظرا أفظع ولا أوجع منه، فينفخ إسرافيل نفخة، يخرج بها الأموات من قبورهم لموقف القيامة. * (خشعا أبصارهم) *، أي: من الهول والفزع، الذي وصل إلى قلوبهم، فخضعت وذلت، وخشعت لذلك أبصارهم. * (يخرجون من الأجداث) *، وهي القبور، * (كأنهم) * من كثرتهم، وروجان بعضهم ببعض * (جراد منتشر) *، أي: مبثوث في الأرض، متكاثر جدا. * (مهطعين إلى الداع) *، أي: مسرعين لإجابة نداء الداعي، وهذا يدل على أن الداعي يدعوهم ويأمرهم بالحضور لموقف القيامة فيلبون دعوته ويسرعون إلى إجابته. * (يقول الكافرون) * الذين قد حضر عذابهم: * (هذا يوم عسر) *. * (مهطعين إلى الداع يقول الكافرون ه ذا يوم عسر * كذبت قبلهم قوم نوح فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون وازدجر * فدعا ربه أني مغلوب فانتصر * ففتحنآ أبواب السماء بماء منهمر * وفجرنا الأرض عيونا فالتقى الماء على أمر قد قدر * وحملناه على ذات ألواح ودسر * تجري بأعيننا جزاء لمن كان كفر * ولقد تركناها آية فهل من مدكر * فكيف كان عذابي ونذر * ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر) * لما ذكر تبارك وتعالى حال المكذبين لرسوله، وأن الآيات لا تنفع فيهم، ولا تجدي عليهم شيئا، أنذرهم وخوفهم بعقوبات الأمم الماضية المكذبة للرسل، وكيف أهلكهم الله، وأحل بهم عقابه. فذكر قوم نوح، أول رسول بعثه الله إلى قوم يعبدون الأصنام، فدعاهم إلى توحيد الله، وعبادته وحده لا شريك له، فامتنعوا من ترك الشرك وقالوا: * (لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا) *. ولم يزل نوح يدعوهم إلى الله ليلا ونهارا، سرا وجهارا، فلم يزدهم ذلك إلا عنادا وطغيانا وقدحا في نبيهم، ولهذا قال هنا: * (فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون) * لزعمهم أن ما هم عليه وآباؤهم من الشرك والضلال هو الذي يدل عليه العقل، وأن ما جاء به نوح عليه السلام جهل وضلال، لا يصدر إلا من المجانين. وكذبوا في ذلك، وقلبوا الحقائق الثابتة شرعا وعقلا، فإن ما جاء به هو الحق الثابت، الذي يرشد العقول النيرة المستقيمة، إلى الهدى والنور، والرشد، وما هم عليه جهل وضلال. وقوله: * (وازدجر) *، أي: زجره قومه وعنفوه لما دعاهم إلى الله تعالى. فلم يكفهم قبحهم الله عدم الإيمان به، ولا تكذيبهم إياه حتى أوصلوا إليه من أذيتهم ما قدروا عليه، وهكذا جميع أعداء
(٨٢٤)
الذهاب إلى صفحة: «« « ... 819 820 821 822 823 824 824 824 825 827 828 ... » »»